الطيبة في مشهد عام
لم يشأ الإسرائيليون الذين أقاموا في منزل محمود غزال أن يغادروا المنزل من دون إعرابهم لأصحابه عن مدى إعجابهم بالـ«فيللا» التي تمركزوا فيها لأيام عدة. فكتب أمين، وهو أحد الجنود، على حائط الـ«فيللا» باللغة الإنكليزية يقول: «أيتها العائلة الكريمة، تملكون منزلاً جميلاً، ونأسف لأنه توجب علينا تخريبه، ولكن هذا ما تنص عليه قواعد الحروب، نرحب بأي عملية سلام معكم، آملين زيارتكم القريبة لنا في أورشليم المقدسة».
تشير ربّة المنزل إلى أنها احتاجت إلى ثلاثة أشهر لإزالة «القرف الذي تركه الإسرائيليون وراءهم»، بعدما استعملوا جميع غرف المنزل وخصوصياته.
تغيّر نمط الحياة اليومية لدى أفراد عائلة سمير عربيد التي سكن الإسرائيليون منزلها، أيضاً. تقول زوجة سمير إنها تشعر بالاشمئزاز لوجودها في منزل شهد بصمات العدو، ناموا على سريرها ولمسوا أدوات منزلها. طفلتها لانا تردّد: «إسرائيل كسرتلي تختي ونزعتلي ألعابي».
«الطيبة ترحب بكم». تستقبلك اللافتة وحدها عند مدخل البلدة، لتبدأ بعدها الرحلة الاستكشافية في قرية دمّرها العدوان الإسرائيلي قبل عام.
تبدو الطيبة كمن يفتقد للحماسة، ينتشر في أجوائها حزن عميق، ولوعة كبيرة، وفرقة، واشتياق.
بلدة منكوبة بآلام أهاليها الذين عادوا إلى ركام منازلهم، وعاشوا الفصول الأربعة معتمدين على رحمة الله، خاصة وأن 18 شهيداً سقطوا بنتيجة العدوان تاركين بصماتهم على الوجوه الحيّة.
لم يرتد الأطفال ثياب عيد الفطر، ولم تستقبل البلدة سنة جديدة كعادتها، ولم تتلق الأمهات الهدايا في عيدهن، ولم تذبح الخراف في الأضحى، وغاب الاحتفال بالتحرير، على الرغم من أن الطيبة هي من أولى البلدات التي تحررت في الثاني والعشرين من أيار العام .2000
تنشط اليوم ورشة إعمار في الطيبة التي استهدفت على نطاق واسع لاعتبارها خط تماس بين العدو وبين رجال المقاومة. فهي تعتبر أكبر بلدات قضاء مرجعيون (45 ألف دونم)، وتقع على هضاب جبل عامل، تحدّها بلدتا كفركلا ودير ميماس شرقاً، ودير سريان وعتشيت والقنطرة غرباً، ورب ثلاثين والعديسة جنوباً، ونهر الليطاني شمالاً، ما جعلها موقعاً شهد معارك عنيفة، فما بقي بيت واحد فيها إلا وتضرر.
منذ اليوم الأول «لوقف العمليات الحربية» وعودة الأهالي إلى ديارهم، اتُخذ القرار بمباشرة عمليات التصليح فوراً، حسبما يؤكد مختار البلدية أحمد شرف الدين لـ«السفير»، موضحاً أن أول ما فعلته البلدية كان تشغيل المولدات الكهربائية وتأمين المياه خلال شهرين تدريجاً. وتزامنت عملية تنظيف الطرقات مع دخول المؤسسات الإنسانية والأهلية إلى البلدة، بعد أسبوع من وقف إطلاق النار. وتم توزيع خزانات المياه على البيوت وجرى تقديم مساعدات الإغاثة إلى الأهالي.
أي صيف؟
حافظت عودة الأهالي على استقرار عدد سكان البلدة وهو 16 ألف نسمة، إذ رفض حتى الذين فقدوا منازلهم مغادرة الطيبة، فاستأجروا منازل أهل البلدة المقيمين خارجها، إما في بيروت وإما في المهجر.
وسبّب إصرار الأهالي على عدم هجر البلدة مشكلة كبيرة على مستوى توفر منازل على عدد المطلوب، خاصة وأن غير المقيمين من أهل الطيبة شرعوا يطالبون المستأجرين بإخلاء منازلهم مع حلول فصل الصيف، أي موعد عودة المغتربين.. تلك العودة التي يقال في البلدة إن غرضها ليس زيارة الوطن والسياحة في أرجائه، وإنما الحصول على التعويضات عن منازلهم المتضررة.
ليليان عروس حرمت من تأثيث منزلها الجديد. وكان شهر العسل بالنسبة إليها نزوحاً عند الأقارب استمر شهوراً عدة بعد وقف إطلاق النار حتى استقرت أخيراً مع زوجها في غرفة صغيرة قدّمها لهما أحد الأصدقاء، على نحو مؤقت. تعيش ليليان اليوم بين الشك واليقين بانتظار مطالبة صاحب الغرفة بإخلائها، «فنصبح في الشارع». لا يختلف حال أم محمد يحيى التي تسكن مع زوجها العاجز وخمسة من أولادها في بيت مؤجر يملكه أشخاص يقيمون في بيروت. أعطى أصحاب البيت عائلة يحيى مهلة شهر لإخلائه، وذلك لأنهم يريدون قضاء فصل الصيف فيه. ولا تجد العائلة حتى الساعة منزلاً آخر تسكنه.
ويتراوح بدل الإيجار في البلدة بين 150 ألفاً وبين 200 ألف ليرة لبنانية، حسبما أشار معظم المستأجرين.
في كل أربعاء، تعرض البلدة منتجاتها المحلية في سوقها الأسبوعي. يشي الإقبال الخجول على السوق بحال البلدة. لم يعد أهل الجوار يرتادونه كما جرت العادة قبل الحرب، فاقتصرت الحركة التجارية فيه على تلبّية حاجات الأهالي الأساسية، كالمأكولات والأدوات المنزلية.
تقول جومانة عربيد إنها تقصد السوق بهدف شراء بعض المأكولات، متجاهلة الثياب والأحذية نتيجة الخوف الذي ينتاب سكان البلدة من عودة الحرب مرة أخرى، وما يرافقها من نزوح سريع يخلّف وراءه الملبس والأثاث.
في الساحة، تجلس الحاجة مريم كريم أمام دكان صغير شاردة الذهن. الحاجة مريم فقدت منزلها، وابنها، وزوجته، وولديهما. تجلس وحيدة في المنزل الذي استأجرته. مرت عليها سنة كاملة وهي تحاكي صور شهدائها الذين اعتادوا على إحياء المنزل. الحاجة باتت عاجزة، تسكن في مكان يفتقد لرائحة الأحباء .«نفسيتي تعبانة يا بنتي»، هذا كل ما استطاعت أن تقوله.
الحاج محمود يعيش مع صاروخ
لدى السؤال عن إمكانية وجود ألغام في البلدة، يتبين أن الجيش اللبناني قد قام بالتعاون مع الطاقم الإماراتي بإزالة جميع القنابل العنقودية.
يدلنا أحد الشبان إلى منزل الشيخ محمود حيث يرقد صاروخ إسرائيلي لم يتم انتشاله حتى الساعة. في المنزل المقصود، يغض الشيخ محمود النظر عن الصاروخ، معتبراً أن طاقم الأمم المتحدة طلب منه عدم لمسه حتى تتم معالجة الأمر، ما دفعه إلى تجاهل وجود الصاروخ كلياً وإكمال حياته الطبيعية بمحاذاته.
ثلاثون مليون متر مربع تمتد على مساحتها البلدة، لم يسلم متر واحد منها من آثار العدوان. نالت الأماكن كلها حصتها منه. وراكم مرور الزمن المشاكل في البلدة، خاصة مع بدء فصل الصيف.
المياه هي أبرز المشاكل إذ أنها تتوفر «بالقطارة» ولا تلبي الاحتياجات كلها على الرغم من مرور مشروع الليطاني في البلدة، فيعتمد الأهالي حالياً على آبار مياه الشتاء.
ثم هناك مشكلة الطـــبابة، حيث قد تستدعي الحالة الصحية للمريض نقله إلى مرجعيون والنبطية، ففي البلدة مستوصف واحد وقد استهدفه العدوان، ولم يتم إصلاحه إلا مؤخراً.
أمراض جديدة
صيدلية فادي رسلان هي الصيدلية الوحيدة في البلدة، أيضاً.
يتذكر صاحبها انقطاع الصلات مع شركات الأدوية خلال الحرب، تلك الصلات التي لم تعد إلا بعد شهر من وقف إطلاق النار وبإيقاع بطيء. حالياً، لا تعاني البلدة من نقص في الأدوية وتلبي الصيدلية احتياجات السكان. لكن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها الأهالي تدفع بهم إلى قصد المستوصف، ما أدّى إلى تراجع حركة البيع في الصيدلية.
ويتوقف صاحب الصيدلية عند إقبال أهالي البلدة، ومعظمهم من الشباب، على طلب أدوية تعالج أوجاع الرأس الناتج عن التوتر، مشيراً إلى ظهور أنواع جديدة من الحساسية سببها تلوث الجو.
الأضرار والتعويضات
يرى رئيس بلدية الطيبة المهندس حسن قازان أن الأمور عادت إلى سابق عهدها في البلدة على الرغم من أن المتضررين لم يتلقوا التعويضات كاملة من الدولة حتى الآن.
وقد باشرت البلدية في إزالة الركام وتنظيف الطرقات بالتعاون مع «مجلس الجنوب» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي». كما تمّ إجراء مسح شامل للأضرار، وعوّضت «جهاد البناء» على جميع أصحاب المنازل المتضررة، بينما تولى «مجلس الجنوب» عبر «الهيئة العليا للإغاثة» التعويض على 129 منزلاً من أصل 156 تهدمت بشكل كليّ، وعلى 333 منزلاً من أصل 350 تضررت جزئياً في البلدة التي تحوي 1500 منزل.
كما تضررت عشرة محال تجارية بشكل مباشر. وقد تأخر الدفع من قبل الهيئة لمدة تسعة أشهر، علماً أن السعودية تبنت إعادة إعمار المنازل المهدمة عبر الدولة. كما ساهمت في بناء مركز ثقافي ومستشفى صغير، فيما ساهمت قطر بإعادة ترميم دور العبادة.
ويفيد قازان أن حجم أضرار البنية التحتية فاق الخمسمئة مليون ليرة تتوزع بين طرقات عامة، وجدران زينة، وجدران دعم، وكابلات نحاس، ولمبات شوارع، وإضاءة للحديقة العامة، وإنارة الساحة العامة، وبلاط أرصفة، وحجارة بوردير، وتابلوهات تحكم للإنارة العامة.. وهي أضرار تنحصر بنسبة 90 في المئة منها في قطاعات الكهرباء والمياه والهاتف والطرقات.
يقدّم قازان «جردة حساب» في مجال الأضرار وإصلاحها، تتضمن:
ـ مشروع الطيبة الذي يغذي البلدة بالمياه. تم استهدافه بشكل مباشر، ما أدّى إلى تدمير الخزان الرئيسي وغرفة الموزعات، ولقد قام «الصليب الأحمر الدولي» بإصلاح الأضرار.
ـ مستوصف البلدية وقد تضرر بشكل مباشر وتولّت مهمة ترميمه «الهيئة الطبية الدولية».
ـ أضرار المياه والكهرباء وقد أصلحت بشكل كامل بالتعاون مع المؤسسات الدولية. أما أضرار شبكة الهاتف فتأخر إصلاحها مدة ستة أشهر. وحتى الآن، هناك تقصير من «أوجيرو» بحسب قازان، إذ ما زال معظم الأهالي يفتقدون الخطوط الهاتفية في منازلهم.
ـ نقص في شبكة الإنارة التي تتضمن 900 جهاز. قامت البلدية بإصلاح 300 بالتعاون مع «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، وهناك 600 جهاز لم يتم إصلاحها بعد، بالإضافة إلى التمديدات الكهربائية.
ـ أضرار مختلفة أصابت الحديقة العامة، ومركز الكمبيوتر والانترنت، والمكتبة العامة التي تضــررت بنسبة مئة في المئة.
أما في ما يتعلق بالقــــطاع الزراعي فقد استهدف العدوان زراعة الزيتون بنسبة 20 في المئة، ونفق حـــوالى 40 رأس بقر وألف رأس ماعز، و200 قفير نحل، بالإضافة إلى الأضرار التي طالت زراعة التبغ والزراعات الموسمية. كما تضـــرر أيضاً عدد من الجرّارات الزراعية والحصّادات من دون أن يتم التعويض عنها حتى الساعة.
ويشير قازان إلى أن المواطن بات غير قادر على تأمين مقومات المعيشة، بسبب غياب الدولة وامتناعها عن تعويض هذه الأضرار. كما أن البطالة زادت في الحقول، ما يشكل عائقاً أمام إعادة زراعة الأراضي، خصوصاً بالتبغ.
الجمعيات المساهمة
في المقابل، نفّذت البلدية حملات إغاثة استمرت لفترة ثلاثة أشهر، وتضمنت تأمين حصص غذائية وشوادر ومولدات كهربائية وحصص نظافة وخزانات مياه للمنازل، بالتعاون مع «الوحدة الاجتماعية في حزب الله»، و«مجلس الجنوب»، وجمعية «لنا المستقبل» من صيدا، وجمعيات «مارسيكور»، و«جان» اليابانية، و«أكتيد»، و«بارد»، و«الرؤية العالمية»، و«المقاومة المدنية»، بالإضافة إلى «اليونيسيف»، و«مجلس الإنماء والإعمار»، و«الهيئة الإيرانية المساهمة في إعادة الإعمار»، و«الهيئة العليا للإغاثة»، وجمعية «أرض البشر» وجمعية «جسور». كما قدمت السفارة الإيرانية مولدات كهربائية، وقدّمت الجالية اللبنانية في السعودية 35 منزلاً جاهزاً، لكن أحداً لم يسكنها نظراً لعجز البلدية عن مد يد العون للأهالي في جعلها قابلة للسكن، نظراً لأن كل منزل يتطلب مبلغ 100 دولار لمدّه بالكهرباء وبالمياه.
دور البلدية
تمكنت البلدية من تأمين خمسة مولدات كهرباء، ومدد شبكة على مستوى البلدة، وتغذيتها بالطاقة، بمساهمة من السفارة الإيرانية. كما تلقت كتاباً رسمياً يفيد بموافقة «المملكة العربية السعودية» على إنشاء مستشفى يحوي 15 سريراً وغرفة عمليات وطوارئ كاملة التجهيز، وقد قدمت البلدية أرضاً لبناء هذا المستشفى مساحته 4 آلاف متر.
في المقابل، تعاني البلدية من مشكلة في الميزانية التي من المفترض أن تصرفها لها الدولة. فلقد حصلت البلدية من «الصندوق النقدي المستقل» في العام 2005 على ميزانية أقرّت في العام ,2003 وقيمتها 518 مليون ليرة. إلا أن قراراً مفاجئاً صدر في حزيران 2006 حدد ميزانية الطيبة لسنة 2004 بـ264 مليون ليرة، أي بتخفيض نسبته 50٪. فتعـــــطلت أشغال البلدية منذ حزيران الماضي وحتى الآن، بحسب قازان. ما أدّى إلى عجـــز البلدية: «لأن إقــــرار موازنة العـــام 2007 يرتبط بمصير الحكومة».
ترميم المدارس ودور العبادة
تولت دولتا قطر و«الإمارات العربية المتحدة» مهمة ترميم المدارس ودور العبادة. ولم يعرف العام الدراسي أي تأخير بعدما قدّمت قرية «دير سريان» مدرستها كبديل عن مدرستي الطيبة المتضررتين، إحداهما رسمية والأخرى خاصة. ولقد رممت «الإمارات» المدرسة الرسمية.
في المقابل، بقيت مشكلة عالقة مع وزارة التربية على مستوى الهبة التركية، بحسب قازان.
فلقد قدّمت الحكومة التركية للجنوب بشكل عام سبع وحدات دراسية جاهزة، مساحة الواحدة منها 400 متر مربع وتحتوي على سبع غرف تدريس. لم تخصص وزارة التربية للطيبة أياً من هذه الوحدات، على اعتبار أن البلدة لا تحتوي أرضاً لإقامتها. في المقابل، يقول قازان إن الوزارة رفضت ثلاثة مواقع جغرافية عرضتها البلدية على الوزارة لاحتواء المشروع.
من جهتها، أشارت مسؤولة التنسيق ومتابعة المشاريع في مكتب الوحدة التابع لوزارة التربية المهندسة مي الدغيلي إلى أن الوزارة أرسلت كتاباً بتاريخ 30/5/,2007 تطالب فيه مجلس الإنماء والإعمار بتكليف متعهد عمار لتركيب الوحدة الدراسية التي قدمتها تركيا. لكن لفتت الدغيلي أنه يحق للوزارة تركيب الوحدة في المدرسة الرسمية فقط، حيث يعتبر حرمها عقاراً خاصاً بها. ولفتت إلى أن بلدية الطيبة يجب أن تقدّم ملفاً خاصاً، في حال أرادت تركيب الوحدات في أماكن لا تملكها الوزارة. وشددت على أنه سيتم إرسال وحدة التعليم إلى الطيبة على الرغم من أن «المدرستين الرسمية والخاصة لا تعانيان من أي مشاكل». كما لفتت إلى أن إرسال الوحدة يتطلب إجراءات عديدة تسبق تركيبها.
مشاكل الطيبة كثيرة. وهموم أهـــلها تتزايد يومياً. كان عدوان تموز بالتأكيد شكّل محطة كبرى ضاعفت من المعاناة التي ما زالت ملامحها حاضرة في وجوه الناس وفي دواخلهم.. وكذلك، في عمران البيوت والمرافق والساحات ومتطلبات العيش.
لكن، في هذه البلدة التي لطالما دفعت ضريبة الدم هناك أيضاً رهان دائم على قدرتها على النهوض مجدداً، وعلى نفض غبار الدمار، وعلى مسح دموع خلّفها شهداء سقطوا.. وعلى متابعة العيش، لا أكثر.
منزل يعاد بناؤه في الطيبة ( الصورتان من أرشيف بلدية الطيبة)
تعليقات: