درس فرنسيّ في إحدى مدارس قلاويه (محمود الزيّات ــ أ ف ب)
بين «تغييرالاتجاه»، الذي تطلّعت إليه تل أبيب في عدوان تموز ــ دون أن تدركه، و«تغيير وجه المنطقة» الذي يعد به الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في أي حرب مقبلة تشنها إسرائيل، خيطٌ رفيعٌ في المعنى ومسافة
عشية الثاني عشر من تموز 2006، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع الرد على عملية الأسر التي نفذتها المقاومة في منطقة حدب عيتا، أطلق الجيش على العملية العسكرية التي باشر بشنها في الليلة نفسها اسم «الجزاء المناسب». قرار الحكومة آنذاك نصّ على «الرد بالشدة اللازمة... بطريقة عنيفة وقاسية على منفذي الهجوم والجهات المسؤولة عنه» من دون أن يحدد إطاراً زمنياً لهذا الرد أو يتطرق إلى الأهداف المطلوب تحقيقها أو شروط إنهائها. في اليوم التالي، الثالث عشر من تموز، اتخذت قيادة الجيش قراراً بتبديل اسم العملية وحوّلته إلى «تغيير الاتجاه». في حينه، أشارت المصادر الإسرائيلية إلى أن هذا التغيير ينطوي على دلالات تتجاوز الجانب الشكلي وتتصل بطموحات استراتيجية أريد التعبير عنها من خلاله. إذ فيما كانت المعاني التي يعكسها اسم «الجزاء المناسب» تقتصر على الإيحاء ببعد «ردّيٍ» ضد المقاومة، الغاية منه معاقبتها على عمليتها، يذهب «تغيير الاتجاه» نحو أبعد من ذلك ليشير إلى ارتباط ما يقوم به الجيش بأبعاد لها علاقة بإعادة رسم المعادلات وموازين القوى الاستراتيجية في المنطقة، وهو الأمر الذي وجد تعبيره لاحقاً في تصريح وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، حول «الشرق الأوسط الجديد». هذه الطموحات تبلورت في صيغتها الأولية عبر أهداف الحرب التي حددها أمر العمليات الذي أصدره قائد أركان الجيش، دان حالوتس، مساء اليوم نفسه، وجاء ضمنها: تعميق الردع الإسرائيلي في المنطقة (اقرأ: تطويع الاستعصاء السوري)، تطبيق قرار مجلس الأمن 1559 (القضاء على المقاومة في لبنان)، تقليص تأثير حزب الله على الساحة الفلسطينية (تطويق الانتفاضة وخنقها)، وفي أسفل اللائحة تمت الإشارة إلى «إيجاد الظروف المناسبة لإعادة الجنديين الأسيرين». بعد ثمانية عشر يوماً من اندلاع الحرب، لخّص رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، في خطاب ألقاه أمام الكنيست، الرؤية الإسرائيلية لأهداف العدوان بالقول «إن الشرق الأوسط بعد الحرب لن يكون كما كان قبلها». نبوءة أولمرت هذه هي الشيء الوحيد ـــــ من أدبيات الرجل ـــــ الذي يُجمع عليه الإسرائيليون في قراءة واقع ما بعد «حرب لبنان الثانية»، وإن كان تفسيرها ينحو نحواً معاكساً لما عناه.
إنجاز الحرب ومفارقة الردع
تقلّبت التقديرات الإسرائيلية كثيراً بعد عدوان تموز قبل أن تستقر منذ وقتٍ غير بعيد على الاعتقاد بوجود جملة من الإنجازات التي نجحت الحرب في تحقيقها. فخلال الفترة التي تلت وقف إطلاق النار مباشرة، ساد إسرائيل وجومٌ جارفٌ من التداعيات السلبية التي خلفتها نتائج الحرب، والتي أفضت إلى بداية تبلور بيئة استراتيجية جديدة تذكر كل يوم بالتصدع الكبير الذي لحق بقدرة الردع الإسرائيلية وتعكس الاختلال الواضح الذي أصاب موازين القوى بين مشروعي الاحتلال والمقاومة. ويمكن المرء أن يقف بسهولة على تصريحاتٍ لمسؤولين إسرائيليين تُنَظِّر لهذا المعنى، لعل أبرزها ما جاء على لسان زعيم المعارضة في حينه، رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، الذي رأى (في محاضرة ألقاها أمام معهد بيغين السادات بجامعة بار إيلان) أن النتائج التي تمخضت عنها «حرب لبنان الثانية» أعادت إسرائيل أربعين عاماً إلى الوراء، أي إلى ما قبل حرب حزيران 1967، حين كان السؤال الوجودي لا يزال يظلل الكيان اليهودي الناشئ في فلسطين، وكان العرب لا يزالون يعتقدون أن الانتصار عليه أمر لا يدخل ضمن نطاق المستحيل. واستطراداً، يمكن الإشارة إلى اللقاء «السري» الذي كشفت عنه الصحف الإسرائيلية بُعيد الحرب بين أولمرت وقادة الأجهزة الأمنية (الشاباك والموساد) الذين أطلعوه فيه على تقديرهم لنتائج الحرب التي رأوا فيها «كارثة وطنية تلقت إسرائيل فيها ضربة قاصمة».
في وقت متأخر (منتصف عام 2008) استفاقت إسرائيل على مفاعيل إيجابية عَزَتها بأثر رجعي للحرب، عنوانُها النجاح في ردع المقاومة في لبنان عن المبادرة إلى عمليات عسكرية عبر الخط الحدودي، الأمر الذي أنتج فترة من الهدوء على الجبهة اللبنانية «هي الأطول منذ ثلاثين عاماً»، كما يطيب للمسؤولين الإسرائيليين أن يكرروا. وفي تمحيصها لمرتكزات هذا الردع، استنتجت النخبة العسكرية والسياسية في إسرائيل أنها تكمن في حجم الرد التدميري المفاجئ وغير المسبوق الذي أنزلته آلة الحرب الإسرائيلية بالبُنى التحتية والمساحات العمرانية المدنية اللبنانية، والذي كان بدرجة من الشدة والشراسة أدت إلى «كي وعي» المقاومة عن التفكير في التحرش بإسرائيل خشية التعرض «لجنونها». لاحقاً، أخذ هذا التلويح بالجنون قالباً مفهومياً في الأدبيات الإسرائيلية أُطلق عليه «عقيدة الضاحية».
تأسيساً على «عقيدة الضاحية»، سعت إسرائيل إلى استغلال تعقيدات الموقف الذي تعيشه المقاومة داخلياً من أجل تكريس قواعد لعبة جديدة معها تكون بديلة من تلك التي كانت سائدة قبل الحرب وتحطمت بفعلها.
ومن المعلوم أن قواعد اللعبة قبل الحرب كانت راجحة لمصلحة المقاومة التي تمكنت من الاحتفاظ بحق المبادرة إلى تنفيذ عمليات فيما كان العدو ـــــ تحت وطأة الخشية من الانجرار إلى فتح جبهة ثانية لا يريدها ـــــ متموضعاً في خانة الانكفاء ضمن ما سمّي «سياسة الاحتواء» ويكتفي غالباً بردود تحفظ ماء الوجه. أما في مرحلة ما بعد عدوان تموز، فإنّ أداء العدو يشير بوضوح إلى أنه مدفوع بهاجس الحرص على عدم تكرار سابقة ما قبل الحرب لجهة التسليم بدونيته العملانية أمام المقاومة والانصياع لرادعيّتها. وما الردود المدفعية التي حرص الجيش الإسرائيلي على تثبيتها عقب كل واحدة من حوادث إطلاق الصواريخ السبعة من الجنوب باتجاه شمال فلسطين على مر الأعوام الأربعة الأخيرة، إلا دليل على هذا التوجه الإسرائيلي الجديد.
بل يمكن القول إن إسرائيل تعمل على إعادة إنتاج سياسة احتواء جديدة معاكسة لنسخة ما قبل الحرب، بحيث تكون هي في موقع المبادرة، والمقاومة في موقع الانكفاء. ولعله يمكن تفسير سلسلة من العمليات الأمنية والعسكرية التي أقدمت عليها إسرائيل خلال السنوات الماضية ضمن هذا السياق، بدءاً من اغتيال القائد العسكري للمقاومة، الشهيد عماد مغنية، مروراً بقصف منشأة دير الزور في سوريا، وصولاً إلى ما تردد أخيراً بشأن نيّات إسرائيلية لتوجيه ضربة تتصل بالأسلحة الكاسرة للتوازن التي تقول إن المقاومة تعمل على امتلاكها.
والحقيقة أن الأمثلة الثلاثة الأخيرة، وغيرها من عمليات إسرائيلية أقل صخباً (مصادرة السفينة فرانكوب، الغارة على قافلة أسلحة تابعة للمقاومة الفلسطينية في السودان) تتصل من زاوية أخرى باستراتيجية إسرائيلية رديفة عنوانها العمل على عرقلة محور المقاومة عن بناء قدراته ومراكمتها عبر استهداف ما أمكن من العناصر المؤثرة على هذا الصعيد. وهنا، بالضبط، يأتي الحديث عن المفارقة التي تعيشها إسرائيل على صعيد الردع الذي تقول إنه تعزز في مرحلة ما بعد عدوان تموز.
فإسرائيل التي تتغنى بارتفاع منسوب ردعيتها لأعدائها ـــــ وعلى رأسهم المقاومة في لبنان ـــــ تقرّ في الوقت نفسه بعدم قدرتها على ردع هؤلاء الأعداء عن مراكمة إمكاناتهم العسكرية إلى حدٍ باتت تمثّل معه تهديداً استراتيجياً. وقد فاضت وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأعوام الثلاثة الماضية بتقارير تتحدث عن مضاعفة المقاومة في لبنان لقدراتها على مستوى الكم (مثال: الترسانة الصاروخية التي قفز عددها من 13 ألف صاروخ قبل الحرب إلى 45 ألفاً بعدها) والطفرة التي تشهدها هذه القدرات على مستوى النوع (الأسلحة الكاسرة للتوازن).
ويمكن إيضاح ما تعنيه مفارقة الردع وفقاً للآتي: إذا كان سياق عدوان تموز ونتائجه أثبتت، بمفعول رجعي، صحة الاعتقاد الإسرائيلي الذي ساد قبله بردعيّة المقاومة، لجهة عدم استسهال التصادم معها والتردد قبل اتخاذ قرار بخوض حرب ضدها، فإن العدوان نفسه أعاد تظهير حقيقة طالما لفتت إليها جهات داخل دوائر صنع القرار الإسرائيلية، مفادها التحذير من أن الارتداع عن إجهاض قوة المقاومة، تحسباً للكلفة المقترنة بذلك، يعني حكماً السماح لها بمراكمة قوتها، وتالياً تعزيز قدرتها الردعية من جهة، وجعل الأثمان المترتبة على مواجهتها في المستقبل أكثر ارتفاعاً من جهة أخرى.
بعبارة ثانية، إذا كانت فلسفة الردع تقوم على منع الحرب عبر رفع كلفتها، فإن الامتناع عن الحرب ـــــ في حالة مقاومة حزب الله ـــــ يقود نحو رفع كلفة الحرب المقبلة عندما تقع عبر الإمكانات التي تتيح فترة الهدوء الحصول عليها. يمكن الجزم بأن إسرائيل لا تزال تعيش في دوّامة هذه المعضلة دون أن تجد مخرجاً مقنعاً منها.
المقاومة والاستراتيجية النقيضة
كان واضحاً أن المقاومة التي خرجت من عدوان تموز بنصرٍ تاريخيٍ على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، لم تركن إلى النشوة التي ولّدها إنجازها الاستثنائي وسط محازبيها وأنصارها، وإنما عملت بصمت على الإعداد للمواجهة المقبلة دون أن تلتفت إلى ما يثار حولها من ضوضاء داخلية وخارجية. وهي إذ اكتفت ـــــ لأجل تثبيت رادعيتها في الوعي الإسرائيلي ـــــ في الفترة التي أعقبت الحرب بالإشارة إلى قدرتها على استهداف أي نقطة داخل فلسطين المحتلة (كما صرح أمينها العام، السيد حسن نصر الله، في مقابلة مع قناة الجزيرة بمناسبة الذكرى الأولى للحرب)، عملت لاحقاً على رفع منسوب ردعها بطريقة تدريجية تشير تناسبياً إلى مستوى القدرات التي تمكنت من امتلاكها. وهكذا شهدنا الصعود المدروس من تأكيد القدرة على تعطيل سلاح البحرية الإسرائيلي، إلى الوعد بسحق فرق الجيش الإسرائيلي التي ستدخل لبنان مهما كان عددها، مروراً بمعادلة تل أبيب مقابل الضاحية أو بيروت، وصولاً إلى إعلان القدرة على فرض حصار بحري على الساحل المتوسطي لإسرائيل في مقابل أي حصار تفرضه الأخيرة على السواحل اللبنانية. وفي السياق، كانت المحطة الأبرز هي التلويح بسياسة العين بالعين على مستوى الاستهداف العمقي للمنشآت المدنية والعسكرية والاقتصادية.
وإذا كان التعهد بتدمير القوات البرية الإسرائيلية المتوغلة إلى لبنان إعلاناً من جانب المقاومة بقدرتها على تقويض الركيزة الأولى للتفوق العسكري الإسرائيلي، وهي سلاح المدرعات بأسطورته «الميركافا»، فإن ما عنته معادلة «المطار بالمطار، والكهرباء بالكهرباء، والمنشآت النفطية بالمنشآت النفطية» اختزالاً ـــــ ولو نسبياً ـــــ لركيزة التفوق الإسرائيلية الثانية، وهي سلاح الجو. فمن الناحية الفعلية، ما لم تقله المقاومة وفهمته إسرائيل، مع إعلانها المعادلة الجديدة هو أنها استكملت وضع اليد على العناصر الأربعة التي يحوّل تداخلُها السلاحَ الصاروخي الموجود في عهدتها إلى ما يشبه سلاح جو على مستوى الفعالية.
وهذه العناصر هي: أولاً، المدى، وتقرّ إسرائيل على لسان وزير دفاعها، إيهود باراك، بقدرة المقاومة على استهداف أي نقطة داخل إسرائيل. ثانياً، الكثافة النارية، وقد تحدث آخر التقارير الإسرائيلية قبل أيام عن قدرة المقاومة على إطلاق نحو 700 صاروخ يومياً باتجاه العمق الإسرائيلي. ثالثاً، القدرة التدميرية، وكانت تقارير إسرائيل قد اعترفت بأن المقاومة تمتلك صواريخ يبلغ حجم رأسها الانفجاري نصف طن، فضلاً عن معادلة «البناء بالأبنية» التي تحدث عنها السيد نصر الله. رابعاً، عنصر الدقة الذي صرّح معلّقون إسرائيليون بأنه المقصود في مصطلح «السلاح الكاسر التوازن» الذي يردده ساسة تل أبيب وعسكرها في إطار تحذيراتهم المتواترة من حصول حزب الله عليه، وذلك لأنه يعني تمكينه من استهداف كل النقاط الحساسة ـــــ العسكرية والمدنية ـــــ داخل إسرائيل، بما يتيح له ممارسة ضغط مباشر على القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي من خلال استهداف ثكنه وقواعده، وعلى قدرة صمود المواطنين الإسرائيليين من خلال تدمير مقومات الصمود على مستوى خدمات البنى التحتية.
من الناحية العملانية، قدّم حزب الله بذلك ـــــ دون أن يصرح ـــــ استراتيجيته النقيضة (counter strategy) لـ«عقيدة سعت إسرائيل إلى استغلال ما تعيشه المقاومة داخلياً من أجل تكريس قواعد لعبة جديدة
عناصر أربعة حوّلت السلاحَ الصاروخي لدى المقاومة إلى ما يشبه سلاح جو
عهد الاستفراد بالجبهات ولّى ليحلّ مكانه عهد الحرب الشاملة المفتوحة على آفاق تغيير وجه المنطقة
الضاحية» الإسرائيلية، معيداً من خلالها توازن الرعب والردع الذي كان قائماً مع إسرائيل قبل الحرب، إلى نصابه. ويمكن المرء أن يعتقد أنّ الحزب عندما فعل ذلك، كان يمهّد الأرض لكي يفرش عليها أوراق خططه المتعلقة بالرد على اغتيال الشهيد مغنية، وهي خطط راهنت إسرائيل، حتى وقت قريب، على أن ردعها وحده هو الذي يحول دون إخراج المؤلم والموجع منها إلى حيز التنفيذ.
إلا أن الحزب لم يكتفِ بالركون إلى المفاعيل الأكيدة للنوع الجديد من الردع الذي أرسى دعائمه، بل عمد ـــــ في خطوة استثنائية بكل المعايير ـــــ إلى توسيع قاعدته عبر إعلان تحالف عسكري ثلاثي الأضلع ضمّه إلى كل من سوريا وإيران في جبهة أريد لها توجيه رسالة حازمة إلى تل أبيب عبر «قمّة الشر» الدمشقية (كما سمّتها إسرائيل) مفادها أن الحرب، إن وقعت، لن تقتصر على جبهة دون أخرى، وأن عهد الاستفراد بالجبهات قد ولّى ليحل مكانه عهد الحرب الشاملة المفتوحة على آفاق تغيير وجه المنطقة، كما وعد السيد نصر الله.
MAD
بعد أربع سنوات على الحرب، كيف يمكن قراءة الواقع الاستراتيجي المستجد بين حزب الله وإسرائيل؟ بعيداً عن تقدير النيّات، يبسط العرض المتقدم مشهداً تبدو فيه الجبهات متوثبةً للاشتعال على مستوى القدرات المتراكمة كما على مستوى الحوافز الأولية لدى طرفي الصراع. فإسرائيل، كما ذُكر، معنية بإجهاض بناء القدرات لدى حزب الله بقدر ما هي معنية بردعه عن تفعيل هذه القدرات. ومشكلتها أن تحقيق الهدف الأول لا يمر بالضرورة عبر الثاني، إن لم يكن متعارضاً معه من الناحية العملية. أما حزب الله، فيعدّ العدة ليوم المنازلة الكبرى الذي سيؤسس فيه لتحقيق أحد أبرز أهدافه الإيديولوجية: إزالة إسرائيل.
الواقع الترادعي المتراكم بين الجانبين أفضى في صيغته الأخيرة إلى إنتاج وعيٍ راسخٍ بأن الحرب المقبلة تنطوي على احتمالات راجحة بالتدحرج لتشمل كل الجبهات، على أن يكون العمق المدني على طرفي الحدود ساحات طحنٍ محكومة لمنطق «عقيدة الضاحية» بنسختيها الأطروحية (Thesis) والنقيضة (Antithesis). هذا الواقع بات يرتكز إلى ما يشبه نظرية «التدمير الحتمي المتبادل» (MAD) المأخوذة من قاموس الردع النووي بين القوى العظمى أيام الحرب الباردة. والمصطلح المذكور يعني أن كلاً من طرفي الصراع يمتلك القدرة على إلحاق تدمير بالغ وأكيد بالطرف الآخر من خلال السلاح النووي، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى ارتداع كلٍّ منهما عن المبادرة إلى شن حرب على الآخر، ما دام ثمنها سيكون دماره هو نفسه بموازاة دمار عدوه.
بعد أربع سنوات على الحرب، ثمة في إسرائيل من يقف على أطلالها ليعلن شوقه إليها في ضوء ما يستشرفه من معالم الحرب المقبلة. قبل نحو ستين عاماً، رأى مؤسس إسرائيل وواضع عقيدتها الأمنية، دافيد بن غوريون، أن فترة الهدوء التي تلي الحروب بالنسبة إلى الدولة اليهودية هي أشبه بحالات هدنة أو وقف إطلاق نار طويل قبل الحرب التالية. كان بن غوريون يعتقد أن إسرائيل تمتلك القدرة على تكريس وجودها بالحروب، إلا أنها تفتقد القدرة على تحقيق السلام عبرها. المؤكد أن في خارج إسرائيل اليوم ـــــ وعلى الأرجح داخلها ـــــ من يرى أن «حرب لبنان الثالثة» ستفتح الباب أمام الطعن بصحة الشق الأول من فرضية مؤسس إسرائيل. يعتقد هؤلاء أن هذه الحرب ستؤسس لتغيير جذري في اتجاه المسار التاريخي للمنطقة، سيكون منشأه إفقاد إسرائيل القدرة على ضمانة وجودها عسكرياً بعد إلحاق الهزيمة بها.
ليست حرباً باردة تماماً
يمكن المرء أن يجازف في مواصلة الإفادة من التشبيه بين واقع الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، وواقع الحرب الباردة بين الجبّارين الأميركي والسوفياتي في حينه. لهذا التشبيه أوجهه الباعثة على التفاؤل كما على التشاؤم. فمن جهة، سبقت الإشارة إلى إيجابية الردع القائم على الدمار التبادلي الحتمي، وهي إيجابية أثبتت السوابق جدواها في منع الحرب بين قوتين عظميين، علماً أنّ المساحة المحدودة لساحة الصراع بين حزب الله (وحلفائه) وإسرائيل، وحجم الطاقات التدميرية التي باتت بحوزة كل منهما تسمح ـــــ بالمعنى النسبي ـــــ بأن تُعزى إلى الردع القائم بينهما ملامح تجاذب بين قوتين عظميين بحجم إقليمي. أمّا من جهة أخرى، فمن المعلوم أنّ التوترات التي كانت تنشأ بين جبّاري الحرب الباردة كانت تجد لها متنفّساً في ساحات فرعية (فيتنام، أفغانستان، كوريا، الشرق الأوسط... إلخ) تجري فيها تصفية حسابات جانبية، وإدارة لعبة التجاذب عبر تسجيل النقاط ومراكمتها، بعيداً عن الضربة القاضية. هذه الساحات كانت أشبه بـ«منطقة امتصاص الكدمات» (Buffer zone)، وكانت تتيح تنفيس الاحتقانات عبر حروب بالوكالة تتّخذ طابع الحروب المنخفضة الوتيرة قياساً إلى حجم القوّتين المُحرّكتين.
بين إسرائيل والمقاومة، يمكن القول إنّ الخط الحدودي ومزارع شبعا أدّيا قبل عدوان تموز دور «منطقة الامتصاص»، التي كان يجري توجيه الرسائل المتبادلة عبرها. كما كانت ساحة لمواجهات وردود محدودة، وإن كانت في بعض الأحيان عنيفة (عملية الغجر، المواجهات في شبعا إبّان السور الواقي، المواجهة النارية على امتداد خط الجبهة في أعقاب اغتيال الشهيدين المجذوب في حزيران 2006). لكنّ الأمر لم يعد كذلك بعد عدوان تموز. فخطّ الجبهة، وما وراءه لبنانياً، تحوّل إلى منطقة محكومة لمندرجات قرار دولي ـــــ تراعيه المقاومة لاعتبارات خاصة ـــــ يقضي بوقف العمليات العسكرية بين الجانبين فيها، وينص على خلوّها من سلاح غير سلاح القوى الأمنية الرسمية. معنى ذلك، أنّ قابلية «التنفيس» التي كانت تتيحها هذه المنطقة لم تعد قائمة، الأمر الذي يعني أيضاً أنّ المساحة الفاصلة بين الهدوء المتفجّر القائم حالياً، والحرب الشاملة التي يتوعّد بها الطرفان هي جدّ ضيقة، بحيث يصعب الاعتقاد بأنها تتسع لمواجهات محدودة، إلّا من النوع الذي يقرّر فيه أحد الطرفين الانكسار أولاً ربطاً بحجم الأكلاف التي تكبّدها، أو يخاف أن يتكبّدها في ظل ظروف سياسية وميدانية يرى أنها غير مؤاتية.
تعليقات: