أبي الحبيب،
لقد كنتُ أكتب عنك في حياتك بصفتك الرساليّة التي أحببت، وأفنيت عمرك فيها، حتى لم نحسّ معها بأنّ أبوّتك لنا في النسب والجسد تختلف عن أبوّتك لكلّ أبناء هذه الأمّة.. كيفَ
ولم أتعرّف عليك إلا تحت المنبر، وعشتُ معك في المسجد أكثر ممّا كنت أراك في المنزل، فكنتُ ـ كما قلتَ لي مراراً ـ أرى وأحسّ بأنّ كلّ هؤلاء الذين تربّعوا تحت منبرك وهم يستمعون إليك شارحاً للقرآن، أو مفسّراً للسنّة، أو معمّقاً للفكر، أو مُطلقاً التشيّع من قمقم العصبيّات والمذهبيّات، أو محاولاً أن تحلّق بالأمّة إلى الفضاءات الرحبة رحابة الكون الذي يسبّح باسم الله، أحسّ بأنّ كلّ هؤلاء هم إخوة لي، وليس عليهم فضلٌ إلا بمقدار ما يقترب الواحد منّا من الله أكثر، وعلمُ ذلك عند الله..
لم أنسَ وقد قلتَ لي إنّك تتزوّد روحيّاً من كلّ الذين يجهشون بالبكاء في الدعاء، وهم يدعون خلفَك في المسجد، بدعاء كميل أو أبي حمزة..، حتّى تعلّمتُ من ذلك تواضع الروح بين يدي الله، وتماهي القيادة مع سائر من تعلّقوا بأطرافها في مسيرة الرسالة الطويلة..
لم أنسَ وقد كان يتجرّأ عليك الصغير والكبير عندما قلتَ لي: إن كان هذا الفكر لله فالله يتكفّل به، وإن لم يكن لله فأنا لا شغل لي به، فليذهب مع الرياح..
ولا تزال كلماتُك ترنُّ في أذني قبل أيّام من لقائك من أحببت، وأنت تقول إنّي قد ظُلمتُ كما لم يُظلم أحدٌ، ولكنّي أحبّهم؛ لأنّي ربّيتهم، وأشعر بأبوّتي لهم جميعاً..
هكذا، علّمتنا ـ يا أبي ويا سيّدي ـ أن لا نحقد على أحد؛ لأنّ «الحقد موت»، ولأنّ القلب الذي يحقد لا يُمكن أن يسمو في حبّه لله، وربّيتنا على أنّ من يأمل عفو الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه، فلا يُمكنه إلا أن يجعل عفوه عمّن أساء وسيلةً لتحصيل عفو الله تعالى..
وعلّمتنا ـ يا من يفتقدك مصلّاك والمنبر ـ أنّ كلّ ما في الحياة ينبغي أن يكون لله، أن نسعى جاهدين لنخلص لله في نيّاتنا، فلا يكون فيها شيء لغير الله، حتّى الذات تذوب في إرادة الله في حركة المسؤوليّة..
والتواضع كان عنواناً من عناوينك الكثيرة، من الناس، معهم، في خدمتهم، حتّى وأنت ترتقي بهم في روحانيّتك، التي اكتشفنا سموّها اليوم أكثر، فأنت لا تشعر في نفسك إلا «أفقر الفقراء إلى الله»، تتوسّل إلى الله بكلّ الأنفاس الطاهرة، والقلوب النقيّة، والنيّات الصافية، التي تنبع من صدق المؤمنين..
ولستُ أدري، ونحن نبذل الجهد اليوم لنصدّق ما منينا به، هل نتحسّر على ثوانٍ مرّت دون أن نتزوّد منك بكلمة، أو بموقف اقتداء، أو بمنهج للحياة؛ كيف؟ وقد ضيّعنا أيّاماً دون ذلك..
حسبُنا أنّ الذي أحببت حيٌّ لا يموت، وأنّ الرسالة التي بها تماهيتَ مسؤوليّتنا، وأنّ القضايا التي بها آمنت قضايانا، وأنّ الروح التي بها حلّقت غايةٌ من غاياتنا، وأنّ الخلق الذي به سمحت خلق الأنبياء، وأنّ الخطّ الذي انتهجت هو الخطّ الذي يوصلنا إلى كلّ الذين نعتقد أنّك معهم ـ ولم تكن إلا معهم ـ تشهد على الأمّة، وتدعو ربّك أن يلطف بها..
حسبنا أنّ ندرك أنّ اللقاء بك لن يكون إلا بسلوك الطريق الذي سلكت، والمعاناة التي عانيت، والصبر الذي صبرت، والنيّة التي أخلصت، والأفق الذي حلّقت فيه؛ وما أصعبه من طريق! وما ألذّ المسير فيه؛ والله من وراء القصد.
نقلها ابن الخيام علي كامل حمود عن
بينات العدد 16-7-2010
والمقال منسوب للسيد منسوب للسيد جعفر فضل الله
تعليقات: