"متى ما وجدت القمحات والبرغلات والحطبات بيرتاح البال"..
"من الكشك بالقاورما" الى "الدبس بالطحينة..". أوفر و "أصح"..
لم تعد المونة تقليداً او تراثاً معتمدا حصرا في المنازل الجبلية والــقــرى النائية، بــل أصبحت حاجة الــى التوفير الاقتصادي وتأمين لقمة عيش لأناس اختاروا ان يأكلوا من انتاج أرضهم "اوفر واصح".
احتلت المونة البيتية أولوية لدى ربات المنازل حتى الحديثات مــنــهــن، ولا ســيــمــا فـــي ظل الغلاﺀ الفاحش وتردي الأوضاع الاقتصادية. ويمكن القول ان المونة "شغل البيت" عادت الى المكانة التي كانت فقدتها في الأعوام السابقة لتخفف ولو قليلاً من الأعباﺀ عن كاهل الناس. هذا فضلاً عن القيمة الغذائية التي توجد في أصناف المونة المعدة في المنازل من دون اضافة أي مواد حافظة اليها، وهي تشكل الــيــوم الــبــديــل الــمــفــتــرض عن المعلبات وما تحمله من أضرار صحية.
أم علي واحـــدة مــن عشرات النسوة اللواتي ينهمكن طيلة فصل الصيف بــإعــداد المونة، لم تمنعها تجاعيد العمر من الــمــضــي فــي مــشــوار جداتها ووصــايــاهــن. وهـــي تستحضر أمــثــال الأجــــداد بــحــق الــمــونــة: "بأيلول وتشرين موّن لعيالك، وشيل الهم عن بالك"، و "مونة الشتاﺀ في البيت يا ابني، مثل الــقــرش الأبــيــض الـــذي تخبئه لــلــيــوم الأســــود، ومــتــى وجــدت القمحات والبرغلات والحطبات بيرتاح البال". من هنا تبرز أهمية المونة في حياة القرويين على وجه العموم، ومن هنا تدرك لماذا تنهمك النسوة بإعداد وتحضير المونة مهما تطلبت من وقت وجهد في آن معا.
أم حسن من بلدة كفررمان ـ النبطية تعتبر من أشهر النسوة الجنوبيات في إعــداد وتحضير مونة، الشتاﺀ وهي تعتبرها من أهم الأعمال التي يجب أن تقوم بها حتى لــو مــال الــدهــر علي فـ "البيت بلا مونة متل الحياة بلا طعم".
تـــشـــرح أم حــســن كيفية تحضير المونة، وتبدأ من سلق القمح لتحضير البرغل.. تقول: "مــن بعد حصاد القمح ودرســه تبدأ رحلة السلق، تجتمع العائلة والــجــيــران حــول مــوقــدة توضع فوقها" الحَلة "وتكون فرصة لأكل" القلبة "(قمح مسلوق مع السكر.).
ثم يتعاونون لنقل القمح الى سطح المنزل حيث يفرش تحت أشعة الشمس ليجف، وبعدها يــؤخــذ الــى المطحنة ليجرش ويحول الى برغل. وهنا يقاطعها جارها: قائلا "بعد جرش القمح يــبــقــى مــنــه الــصــريــصــرة" أي "الرويشة"، وقديما كنا نجتمع لأكلها مع السكر والماﺀ لشدة الفقر".
تــعــد الــمــلــوخــيــة مـــن أكــثــر الأطباق اللبنانية شهرة، وكل ما يعرف عن الملوخية انها تؤكل يــابــســة.. ولــكــن المعاناة التي يتكبدها المزارع من زراعتها الى تجفيفها قليل منا يدركها..
تــقــول أم حــســن ان "لا شــيﺀ صعب.. الملوخية تزرع مع بداية فصل الصيف وتستمر مدة ثلاثة أشهر.. أي إنها موسمية. وتمر بعدة مراحل كي تصل الى مرحلة اليباس.. تقطف ورقة ورقة ومن ثم تجفف بعيدا عن الشمس، وهي تحتاج الى صبر، فقطاف الملوخية يستمر من 4 الــى 6 ساعات في اليوم حسب المساحة المزروعة".
ومن لا يحب الكشك والكبيس والــمــربــيــات، تقولها أم حسن التي تــدرك ان قلة قليلة من الناس اليوم تعتمد على المونة البيتية، والغالبية تشتري كل شيﺀ جاهزاً. تضيف "شو ما صار رح واصــل مشوار اعــداد المونة لأولادي ولأحفادي، وسأعوّدهم عليها". وتتغنى الحاجة فوزية بكل ما تنتجه يــداهــا، وكأنها توصل رسالة للجميع ان يعودوا الى المونة ولو كان ذلك يتطلب وقتا وجهدا.. فأنت تعرف ماذا تــأكــل. ولـــرب الــبــنــدورة طريقة مــعــيــنــة، اذ يــجــب ان يحظى بعناية خاصة كي لا تتلف. أولاً عليك ان تختار البندورة البلدية الجيدة، ومــن بعدها تعصرها وتسحب منها المياه قبل ان تكمل طريقها باتجاه الغلي على نــار هادئة مع تحريك وسحب المياه منها حتى تخلص الى رب البندورة الذي يبقى تحت أشعة الشمس من يومين الــى ثلاثة ليوضع بعدها في أوعية ويحفظ في مكان بارد.
وهــنــاك الــصــعــتــر الــمــمــزوج بالسماق والسمسم، "ومن لم يذق طعم الصعتر البلدي الجنوبي لا يعرف قيمته".
. بهذه العبارات تختصر أم حسن أهمية وقيمة الصعتر. وحول تحضيره تقول إنه بعد أن يُقطف ويُجفف يجرى دقه مع السماق تحت أشعة الشمس حتى تحصل على طعم جيد، وله فوائد كثيرة.
ومن أنواع المونة ايضا الفريك الـــذي يـــوازي بأهميته السمك الــمــدخــن، فـــالأجـــداد مــنــذ مئات السنين يدخنون القمح ويحولونه الى فريك.
وعــن تحضيره يخبرنا العم علي الــذي يقوم بهذه العملية منذ عشرات السنين، يقول: نأتي بسرير قــديــم "رفــــاص"، نشعل تحته النار ويكون وقودها جذوع الأشجار الخضراﺀ لكي يتصاعد منها الدخان الكثيف، بعدها نضع سنابل القمح الخضراﺀ على السرير الـــذي يبقى بعيدا نــوعــا مــا عن الدخان النار، ويستوي القمح من ويتحول الى فريك".
تعليقات: