امام المدفن الذي استحدث للشهداء
الخامسة إلا ربعاً من فجر يوم الجمعة في 11 آب ,2006 أطلق الطيران الحربي الإسرائيلي صاروخاً على جسر الحيصة الذي يربط محافظة عكار ومعها كل الشمال بالحدود اللبنانية ـ السورية.
استفاق الأهالي مرعوبين وخرجوا من منازلهم لاستطلاع الأمر. استغربوا قصف الحيصة في أقصى الشمال والمعركة دائرة في أقصى الجنوب. وهرع كثير منهم إلى الجسر لإنقاذ الجرحى الذين أصيبوا في منازلهم القائمة على ضفاف النهر.
عند الخامسة اكتمل المشهد: زحمة أهالي على الجسر لتفقد الأضرار، سيارات تنقل الجرحى وأناس على الشرفات المطلة على المكان. أطلق الطيران الحربي الإســــرائيلي الذي كان يحلق على علوّ مرتفع صـــاروخاً ثانياً على الجسر فانهار بشكل كامل، وانهارت معه عائـــلات من البلدة خسرت 11 شهيداً، وسقـــط لها 14 جريحاً بينهم ثلاثة أصيبوا بإعـــاقة دائمة. دخلت الحيــــصة في سجل المجازر الإسرائيلية الاسود.
المقاتلات عادت لتغير فجر يوم الاحد في 13 آب على المكان نفسه وفي الموعد نفسه لتتضاعف الخسائر المادية.
تفاصيل الجريمة ما زالت ماثلة في أذهان الجرحى وأهالي الشهداء. أما المأساة فتكتمل بالحرمان المتمادي من قبل الدولة اللبنانية التي لم تنته لجانها الفنية من دراسة الأضرار التي لحقت بنحو أربعين منزلاً، وبالتالي لم يقبض أصحابها أي مبلغ يساعدهم على إعادة الترميم، اما الجسر فأعيد ترميمه على نفقة المغترب اللبناني في كندا أحمد طراد، في وقت ما زال عدد من الجرحى ينتظرون البتّ بنسب التعطيل التي أصابت أجسادهم ليحصلوا على تعويض من الهيئة العليا للإغاثة التي اقتصرت تعويضاتها على عائلات الشهداء بمبلغ عشرين مليون ليرة لكل عائلة، وعلى خمسة جرحى من أصل .14 كل ذلك يجعل البلدة ترزح تحت وطأة ما أصــــابها قبل نحو عام، في ظل عدم إقرار أي مشروع إنمائي أو أي مساعدة عاجلة أقله على الصعيد البلدي لاستكمال ما كانت باشرت فيه البلدية قبل العدوان من مشاريع بنى تحتية ومجارير وصرف صحي هي بأمس الحاجة إليها.
تبعد الحيصة عن الحدود اللبنانية ـ السورية لجهة العبودية 4 كيلومترات فقط، وهي تعتبر الشريان الأساسي الذي يربط كل الشمال بهذه الحدود عبر جسر الحيصة الذي استهدفه العدوان الاسرائيلي، وهي تعتبر من أقدم القرى العكارية التي تختزن عدداً من الآثار وبعض المقامات لأولياء ومشايخ من عهود قديمة.
ويقول رئيس بلدية الحيصة محمد علي حسين إن القصف إصاب عدداً كبيراً من المنازل، منها منزلان لم يعودا صالحين للسكن أحدهما جُرف والثاني ما زال ينتظر. ويضيف: إن استهداف الحيصة من قبل إسرائيل، ومصابها الأليم في الشهداء والجرحى، لم يلفت نظر الدولة اللبنانية التي لم تحرك ساكناً لجهة القيام بأي مشروع إنمائي فيها، كما أن الحيصة ما زالت تنتظر التعويض على أصحاب المنازل التي تضررت والذين قدموا طلباتهم أكثر من مرة، وراجعوا في دوائر بيروت مرات عديدة. ويقول إن جريحين عولجا في إيطاليا لم يحصلا على أي تعويض من الهيئة العليا للإغاثة، وكذلك نحو ثمانية جرحى آخرين.
لا أعرف كيف اختفى
ما زال محسن معلا عاجزاً عن استيعاب كيف اختفى ولده معلا معلا (16 سنة) من جانبه بفعل انفجار الصاروخ واستشهاده على الفور، فيما هو أُصيب وولده الثاني إصابات بالغة. ويقول محسن: نحن نقطن بجانب الجسر، وقد أصيب ثلاثة من أولادي في الغارة الاولى إصابات طفيفة، فضلاً عن جرح آخرين، فخرجنا من منازلنا بهدف إنقاذ الجرحى، وفجأة قذفنا صاروخ أطلقته إحدى الطائرات مسافة ستة امتار، وقد شعرت أنني أصبت في ساقي، وكذلك ولدي حسن الذي شاهدت الدماء تنفر من رقبته، وكان يصرخ بأن معلا قد مات، فتم نقلنا إلى المستشفى الذي لم يقدم لي العلاجات اللازمة، ما ادى الى التهاب الجرح وكاد أن يؤدي ذلك الى بتر ساقي، فطلبت نقلي الى مستشفى آخر وخضعت للعلاجات اللازمة، فيما لا يزال ولدي حسن يعاني من مشاكل صحية جراء الإصابة.
ويروي محسن ملحم قصة ولديه غسان ومحمد اللذين أصيبا وظن بداية أنهما في عداد الأموات، وأدى إهمال أحد مستشفيات عكار الى بتر يد الاول وبتر ساق الثاني، وتعريض حياتهما للخطر ما استدعى نقلهما الى إيطاليا على نفقة الجمعيات الايطالية التي ساهمت بنقل عدد من الجـرحى لمعالجتهم هناك. ويعتب محسن أنه يحمل على الدولة اللبنانية التي لم تهتم بما أصاب ولديه وكأنهما من جنسية اخرى، وبالرغم من التقارير الطبية التي استقدمها من إيطاليا والموقعة من قبل الاطباء الشرعيين والتي تؤكد أن التعطيل الذي أصابهما هو بنسبة 100٪. هذه الاوراق موقعة أيضاً من القنصل اللبناني في ميلانو. ومع ذلك، فان الهيئة العليا للإغاثة ما تزال تمتنع عن صرف تعويضات الجرحى التي أقرت منذ العدوان وتطلب مزيداً من الاوراق، مؤكدا أنه سئم وملّ المراجعات في بيروت والإذلال الذي يتعرض له عند هذه الدائرة وتلك.
إم الشهيدين
يتذكر الجريح حسن كامل معلا الذي فقد يده انه استفاق على دوي انفجار قوي جداً، وسارع الى الجسر مع الأهالي لإنقاذ ثلاثجرحى كانوا يطلبون النجدة، ولدى وصولهم إلى قرب الجسر أطلق الطيران الإسرائيلي صاروخاً ثانياً، لم يسمع صوت دويه، لكنه فجأة وجد نفسه محاطاً بصراخ الأهالي، ويدوس على لحم بشري، ومن ثم شعر ان يده بترت بكاملها، وأن خاصرته مفتوحة والدماء تسيل منها بكثرة.
يتابع: ظننت للوهلة الأولى أن جميع أهل البلدة قد ماتوا، وأننا أصبحنا في يوم القيامة، لكن شيئاً فشيئاً بدأت أدرك ما يجري من حولي، خصوصاً اني كنت أسير مترنحاً والناس تشير إلي بالأصابع وتدعو لإنقاذي، وبالفعل فقد سارع أبناء عمي في نقلي الى المستشفى حيث مكثت فترة شهر ونصف الشهر خضعت خلالها لعلاجات كثيرة خصوصاً أن الشظية الكبيرة التي دخلت في خاصرتي وصلت إلى الكبد، كما أنني فقدت يدي، وطبعاً هذا شكل لي صدمة كبيرة حيث إنني وفي لحظات قليلة تغيرت حياتي بشكل كامل، هذا عدا الصدمة التي أحدثتها المجزرة في نفسي والمشاهد التي لا تفارق مخيلتي. ويطالب حسن الدولة أن تخصص راتباً شهرياً للمعوقين أو لجرحى الحرب، «لأننا نريد أن نعلم أطفالنا وأن نربيهم وان نعيش بكرامة».
من جهتها، لم تكن جورية كنجو (زوجة الشهيد رشيد حسن) تريد أن تغادر الحيصة إلى حمص، إلا أن إصرار زوجها أجبرها على ذلك، فوصلها الخبر المفجع الى هناك وعادت أدراجها لتودع شهيدها الذي كسر ظهرها وترك لها مسؤولية عشرة أولاد ما تزال عاجزة عن القيام بها.
وتشير جورية الى أن بعض اولادها نزلوا الى سوق العمل لمساعدتها على تربية أشقائهم، مؤكدة أن استشهاد رشيد ترك فراغا كبيرا ومن الصعب ان تتمكن هي من أن تسد مكانه. وترفض جورية أن تطالب الدولة بمساعدتها، لأن الدولة تحتاج الى من يساعدها، وفي هذا البلد لم يعد أحد قادراً على مساعدة أحد.
أما وهيبة السيد فتختصر بحزنها حزن كل الامهات الثكالى، وباتت تعرف في الحيصة بـ «أم الشهيدين» علي وغسان ملحم..
منذ ذلك الفجر المشؤوم وعينا وهيبة تبكيان على ولديها اللذين تعهدت تربيتهما يتيمين بعمر 6 و13 سنة بعد وفاة والدهما، وودعتهما شابين بعمر 25 و32 سنة. تقول وهيبة: «شو بدي إتذكر؟ ما فيني إتذكر. كان أسوأ يوم بحياتي، شو يعني إم تفقد ولدين بلحظة واحدة. عقلي ما عاد يحمل. كل يوم بتذكرهم وبحكي معهم، وبعملهم أكل وبوضب تيابهم. الله يبلي إسرائيل بزلزال، أنا ربيتهم صغار بعد ما توفى أبوهم، وما فرحت فيهم. إبني علي مفتش أمن عام قد الدنيا، كنت اوضب أغراضه قبل ان يذهب الى الخدمة، وطلع الانفجار الاول. نزل علي ولحقه غسان وشادي (ولدها الثالث) وبعدها طلع إنفجار ثانٍ، وشعرت معه أن قلبي انفجر، وإني خسرت أغلى ما عندي. خرجت من البيت مثل المجنونة، رأيت إبني شادي يركض ويصرخ «ماتوا كلن»، صرت أضرب على راسي، ومشيت إلى جسر وشفت ولادي مشقفين. صرخت.. كل يوم أنتظرهما». ولأنهما لن يعودا، تخرج في كل ليل من البيت لتبحث عنهما..
تعليقات: