مروى عبد الله الاسبوع الماضي وتبدو صورة اخيها من خلفها ( حسن عبد الله)
يبدأ البحث عن مروى عبد الله بالسؤال عن بيت محمد عبد الله الذي فقد ثلاثة من أفراد عائلته في مجزرة مروحين، وعشرين شهيداً من الأقارب.
تمتلئ الجدران المنخفضة في بيت مروى في بئر حسن بإطارات تحتضن صوراً لشهداء العائلة طبعت أسماؤهم بعناية: «الشهيد المظلوم هادي محمد عبد الله» يضحك في صورة كبيرة على الحائط وخلفه شعار الجيش، وإلى جانبه صور أخرى للشهيدة ميرنا محمد عبد الله مع خلفية لمسجد محمد الأمين، وثالثة للشهيدة مريم والدة مروى عبد الله التي نجت مجزرة مروحين مع أخيها وسام.
لا تطل مروى سريعاً إلى ملاقاة الضيوف. تأخذ الصغيرة وقتها كي تسرّح شعرها وتستعد للقاء صحافي آخر. بعد السلام تختار لنفسها مقعداً مقابلاً لوالدها في الصالون، تستمع إليه وتبتسم من دون أن تقول شيئاً. يشرح الوالد أنه طوال العام المنصرم كان يجد الكثير من الصعوبة في التعامل مع الحدث وأثره على أولاده. يقول: أحاول أن أنسيهم الواقع الذي يعيشونه. لكنني عاجز لأن الاولاد فقدوا والدتهم. من خلال التجربة التي عشتها اقتنعت أكثر ان الام هي كل شي. ويتابع: «المتطلبات كثيرة لأولادي الستة. أنا مقصر معهم تماماً في الجزء المادي لكني أحاول أن أكون على قدر الحمل معنويا». نسأله عن كيفية تعاطيه مع مروى الشاهدة على هول المذبحة. تأتي الاجابة سريعاً: «أجرب أن أكون أمها وأباها وأخاها وأختها».
تتابع مروى جلوسها الهادئ وتلقي نظرة خاطفة على ذراعها: لم تختف آثار الحروق تماماً عن ذراعها اليسرى. هي ظاهرة لمن يمعن النظر. بالضبط كما تظهر آثار شظية في العنق عندما تقرر مروى أن تريها لنا.
تعود مروى لتقرر الاصغاء إلى كلام والدها عوض الاجابة عن الاسئلة. هو يحكي كيف يبصر زوجته في المنام كل يوم عند الساعة السابعة صباحاً: «كأنها تأتي إلى المنزل تطمئن علينا قبل ان نذهب إلى أعمالنا». أما مروى فتضم ذراعيها إلى بعضهما وهي تشرح لنا انها ايضا تحلم «بهم» لكن «ليس كثيرا»: «بشوف الماما بس، وبشوفها متل ما كانت قبل مش بعد».
ولمروى طريقتها الخاصة في التذكر. هي تستعيد صوراً تريدها أن تبقى حية معها وتبعد عن ذاكرتها صوراً أخرى: «أتذكر أخي هادي وهو يلعب فوتبول، وأختي ميرنا تلعب معي، أما أمي فتفكر في دائماً، وتفعل كل ما أطلبه منها».
خلال السنة المنصرمة واجهت مروى أكثر من تغيير قاسٍ في حياتها اليومية. والدتها مريم ليست هنا لتحضرها للذهاب إلى صفها برفقة ميرنا وهادي. وفي المدرسة كان هناك من يسألها عن ما حدث: «لا أقول شيئاً، لا أحب التذكر. أريد أن أنسى. لا أحب تذكر الحادثة لكن أحب تذكر أهلي».
بالطبع، فإن مروى لا تلام أبداً على اختيارها النسيان، وعلى الارتداد إلى الخلف عن الذكرى التي مزقت عائلتها، لكن الحديث يعيد بطريقة أو بأخرى إلى لحظات المأساة عندما تعطل محرك «البيك أب» الذي كان ينقل الجميع من مروحين. «طلع الدخان من البيك أب وكنا ننزل منه لما انطلق صاروخ البارجة»، تقول الجملة سريعاً ثم تتابع بالنمط السريع نفسه كمن لا يريد أن يقف طويلاً عند هول الحادثة «لم تمت ميرنا، اخي وسام كان مجروحاً والدم ينزف منه على البحص. كانت ميرنا قاعدة في البيك أب. اقترب كي يساعده. لكن الطائرة قصفت علينا ثاني مرة». أما ما فعلته الطائرة بجسد هادي الصغير فبقي حتى اليوم في رأس مروى: «كان هادي يلبس بيجاما.. مش متل ما كنت أنا لابسة.. انحرق ولزقت عليه. بعدين صرنا أنا وزينب ولارا نهرب ونصرخ».
على كل بقيت مروى تظن فترة طويلة ان هادي وميرنا ووالدتها ما زالوا نياماً لا أمواتاً «عندما زارنا أقرباؤنا في مستشفى حيرام قالوا لي انهم ما زالوا أحياء»، لكنها سرعان ما اكتشفت الحقيقة ولا يبدو انها «غفرت» لهم إخفاء الحقيقة عنها: «كذبوا علي. بعدني زعلاني منهم كثير».
تبتعد مروى عن الحزن عند الحديث عن دراستها. هي تقول ان والدها يريدها ان تصير طبيبة. وعند السؤال عما تريده هي تجيب: «عندما كانت أمي على قيد الحياة كنت أسمع كلمتها، اليوم أسمع كلام والدي، فوالدي هو والدتي اليوم ووالدتي هي والدي. عرفت كيف؟».
لا تفرح مروى كثيراً بفكرة انها باتت صغيرة البيت، هي تصر على ان تثبت أنها كبيرة على طريقتها: «كل الايام أساعد أختي الكبيرة على ترتيب البيت لأنها تقوم بكل شيء، وصرت أعرف أكنس وأمسح وأرتب البيت». لكن مروى الطفلة تعود لتظهر من بين كلمات «ست البيت الصغيرة» عند سؤالها إذا ما زارت مروحين بعد الحادثة: «إيه طلعت وشفت بيتنا المهدم، وهي الصيفية رح اطلع كمان ورح ألعب مع رفقاتي فوق».
تعليقات: