ولما لا؟ وصديقتاها الحميمتان قد سبقتاها, ولها أن تتألّق بدورها على بقية الصديقات .. أليس دليل على جمالها وجاذبيتها وجدارتها أن تدخل عالم الزوجية في سن الرابعة عشر, ويا للفرحة العارمة فهي الآن الحدث! ومحور اهتمام الجميع ومحطّ أنظارهم , وغداً رحلة الأحلام السعيدة تبصر النور في غمرة الفرح والهناءة, وعندها لن يكون مُحزناً فراقها النهائي لمقاعد الدراسة وأيام العناء والتعب.
تجول تلك الأفكار بخاطرها, فتزداد إقتناعاً بصواب خيارها, ولم يكن لديها ما تراه سوى رابط الزوجية ـ ما يسمونه مغالطة (المحبس) ـ الذي سيزين أصبعها الصغيرة بُعيد لحظات. ولا أخفي عليكم حينها شعوري الآثم بذنب لم أتعمّد ارتكابه, وربما كان سيل الكلمات والنصائح وما يزيّنها من جميل الوحي السماوي محاولة صادقة لإسكات صوت الضمير المؤنّب, ومحاولة لرفد تلك الطفلة بوعي الخطوة الذي أجزم أنّها لم تصادفه.
لم تفاجئني زيارتها بعد عامين, متأبّطة طفلةً في شهورعمرها الأولى , وبعيداً عنها جلس مَن خاَلتهُ فارس أحلامها , وكأنّما بعد المكان صريح البيان عن حياة هشّة صارعت كثيراً لكنّ أمواج القدر لفظتها جثة هامدة على شواطئ الأحلام المحفورة برمال هجينة ..
ساعات من المحاولات المستميتة مضت , خلتُ نفسي حينها طبيباً يتفانى جاهداً لحفظ حياة سِلّيمٍ يصارع سكرات الموت .. ولكنّها مشيئة العقل قضت ..
خالجني في صعوبة الموقف شعور بالحزن والسخط , زاد وطأته ابتسامة بريئة ارتسمت على ثغر الطفلة الضحية, ولعلها تبسّم من يستصّعب البكاء ويستنظر الألم ..
معذرة يا أصدقائي إن كنت أخالفكم الرأي في الموقف المؤيّد بالمطلق للزواج المبكّر, ولكنني أيضاً لست ممن يرفضونه بالمطلق, فأنا من المتعبّدين بالنصوص الشريفة, ولكنني حينما أدرس المرحلة التي نعيش, وخصوصية زماننا الذي يتمايز عن غيره من الحقبات التاريخية, ويفوقها دقّة وصعوبة والتباساً, عندها أجرؤ على القول إنَّ الزواج الذي لا ينطلق من حالة فهم وإدراك ودراية كاملة لمتطلّبات المرحلة ومسؤولياتها, واستيعاب دقيق جداً لتفاصيلها واستثناءاتها, هو زواج محكوم بالفشل خصوصا إذا كان في سنّ مبكّرة لا يكاد الطرفان يخرجان معها من صخب المراهقة وضوضائها. ولهذا فإنني أخاطب المشجعين اليوم على الزواج المبكّر وأناشدهم بأن لا ينظروا إلى تلك الخطوة المصيرية التي يتوقف عليها حفظ النسل وتماسك المجتمع من زواية واحدة, ولا يكن همّهم من الدعوة إلى التزويج المتعجّل مراعاة الجانب الغرائزي فقط على أهميته وأولويته, لأنه في حساب المصالح والمفاسد يكون حفظ المجتمع وحماية الأسرة من التفكّك والضياع أهمّ وآكد, ونحن نعاين بحسرة التزايد الهائل في معدلات الطلاق في العالم العربي والإسلامي كنتيجة لإنعدام الوعي الزوجي ولاستبدال الأسس الإسلامية والقيم النبيلة بمستوردات العادات والتقاليد القادمة إلينا من مجتمعات وثقافات مختلفة.
إنني أتفهّم بشدة ما يعانيه شبابنا اليوم من ضغط هائل وموجّه يستهدف دينهم وعقيدتهم كمقدمة لإستهدافهم في حريتهم وأوطانهم, ويحاول أعداء الأمة إسقاط الشباب من خلال الترويج المنظّم للإباحية والفساد عبر القنوات الفضائية, ووسائل الإعلام وشبكة الإنترنت, ما يجعل من التحصين الذاتي بالاستعفاف والكفاية مطلباً ملحّا, ولكن مجدداً فإنَّ هذا لا يلغي أهمية مأسسة الوعي الزوجي خصوصاً في السّن التي يحتاج معها كلا الزوجين لوصاية مجتمعية يتعاون في ترجمتها الأهل الجديرون, ورجال الدين والإجتماع, والوزارات المختصة بالجانب الإجتماعي, والأندية والجمعيات ذات الاهداف الإنسانية, في إطار خطّة وقائية محكمة ترتدّ إيجابياتها على المجتمع كلّه .
الشيخ محمد قانصو
كاتب وباحث لبناني
Ch.m.kanso@hotmail.com
تعليقات: