رفيق خوري: رئيس التحرير الذي أراد أن يكون شاعراً
دمشق، يقف الصبي الشقي رافعاً قبضته وهاتفاً ضد الاستعمار الفرنسي للهند الصينية، فيُعتقَل وهو لم يتعدّ بعد الثالثة عشرة. بعد سبع سنوات، سيدخل طالب الحقوق إلى سجن المزة، ويبقى فيه أربعة أشهر، بعدما تحوّل ماركسياً ثائراً. تهمته هذه المرّة، كانت الانتماء إلى «رابطة الكتّاب» في سوريا. كانت الرابطة يومذاك تضمّ مجموعة من الكتّاب والصحافيين الشيوعيين الذين لا تنظر إليهم السلطة بعين الرضى.
مع الأيّام، سيتحوّل رفيق خوري إلى الصحافة في لبنان. وبعد سنوات طويلة سيصبح الشاب المتحمّس أحد المحللين السياسيين الذين يتميّزون بعقلانيتهم وهدوئهم. لقد وجد طريقه إلى الصحافة الثقافية، ثمّ السياسية، فسرقته من أحلام أخرى كالشعر، ومن مهنة المحاماة التي فكّر لوهلة أنّه سيمارسها «دفاعاً عن المظلومين والمسحوقين والفقراء».
لكن كيف تحوّل ابن عائلة وقفت طويلاً على هامش الحياة السياسية في لبنان إلى «خرّيج سجون»؟ رئيس تحرير صحيفة «الأنوار» البيروتيّة، يجيب في منتهى الجديّة: «رواية «الأم» لمكسيم غوركي غيّرت حياتي». وبعد غوركي، كرّت سبحة الأدبيّات الماركسية التي حوّلت رفيق خوري من مجرّد مراهق ثائر إلى مناضل سياسي تطارده السلطة... وترفضه العائلة التي لم يعجبها انخراطه في العمل السياسي.
قصة رفيق خوري مع الصحافة بدأت في مجلة «الأحد». وكان بين زملائه آنذاك صحافي شاب اسمه طلال سلمان سيطلق لاحقاً جريدة «السفير». هنا بدأ يكتب مواضيعه الثقافية والأدبية، غير أنَّ نقيب الصحافة الراحل رياض طه الذي كان يصدر هذه المطبوعة، اختار له مصيراً مختلفاً: «قال لي أنت مسيّس، وصاحب ميول يساريّة، عليك أن تكتب في قسم السياسة»... وهذا ما حصل بالفعل. لكن شهر العسل بينه وبين «الأحد» انتهى حين اشترى أمير كويتي حصة من «دار الكفاح» التي تصدر المجلة، «كانت أفكاري يومها تمنعني من العمل في مطبوعة يشارك فيها أمير عربي، في وقت كنت فيه أكافح الرجعية والرأسمالية...».
ومن «الأحد» إلى جريدة «الأحرار» البعثية، ثمّ «الأحد» مجدداً، فمجلة «الحسناء». تنقّل رفيق خوري في أكثر من مطبوعة ليستقرّ بعدها في صحيفة «النهار» التي دخلها عام 1968، وشغل فيها منصب رئيس قسم الأخبار الدولية. يتذكّر خوري كل هذه الأحداث بتسلسل واضح، وصولاً إلى دخوله «دار الصياد» عام 1975، وتسلّمه رئاسة تحرير «الأنوار»، الموقع الذي ما زال يشغله إلى اليوم. قد يسأل بعضهم عن سبب بقائه في المطبوعة نفسها 35 عاماً، وقد لا يفهم آخرون هذه العلاقة الحميمة بين رفيق خوري وعموده اليومي على الصفحة الأولى من الجريدة. ينبغي الاستماع إلى الرجل وهو يحكي عن تعلّقه بـ«الأنوار»، وعن الحرية التي يتمتّع بها داخل هذه الصحيفة، وعن العلاقة المميزة التي تربطه بأصحاب «دار الصياد» أي آل فريحة الذين لم يفرضوا عليه يوماً أي خطوط حمر كما يقول.
لكن الصحافة لم تكن شغف خوري الوحيد. يعترف بشيء من الأسف: «كل ما قدّمته في الصحافة كان على حساب طموحي الآخر». ولا يتردّد كثيراً قبل الكشف عن ذاك «الآخر»: الشعر والأدب والمسرح. ولرفيق خوري مع الشعر قصة أخرى، لا تشبه صورته السائدة والمكرّسة، ولا الكتابات التي يطالع بها قرّاءه يوميّاً. بدأت هذه القصة عندما كان مراهقاً يكتب خواطر الحب والثورة على دفتر صغير. وبعد انقضاء سنوات المراهقة، قرّر نشرها فصدر كتابه الأول «الزئبق والدم» («دار العلم للملايين» ــــ 1959).
يتوقّف عن الحديث، ليستعيد تفاصيل تلك السنة التي غيّرت حياته: «بعد فترة قصيرة من صدور كتابي، خطفتُ زوجتي، وقصدت دار النشر لأطلب مستحقاتي المادية من الكتاب، بما أنني لم أكن أملك المال للتكفّل بمصاريف عائلة». العاشق الولهان رفض ارتباط حبيبته برجل فرضه أهلها، فاختار «خطفها» وتزوجها من دون علم أحد. لم يكن رفيق خوري قد تجاوز الحادية والعشرين.
الصحافة والشعر قاداه إلى الرحابنة، فربطته صداقة قوية بعاصي ومنصور وفيروز. ثمّ ما لبثت أن تحوّلت الصداقة إلى علاقة مهنية أيضاً، فلحّن الأخوان عدداً من قصائد خوري، وأبرزها «أرجعي يا ألف ليلة غيمة العطر/ فالهوى يروي غليله من ندى الفجر/ إن أشواقي الطويلة أغفرت عمري/ وحكاياتي خميلة في مدى الدهر».
الصحافي المخضرم المولود في بلدة مشتى الحلو السورية لعائلة لبنانية، تربطه علاقة مميزة بالمدن... بيروت على وجه الخصوص. لكنّه يحتفظ بصورة بيروت الخمسينيات والستينيات: مطعم «فيصل»، الـ«دولتشي فيتا»، مقهى الـ«هورس شو»، «كلها لم تعد موجودة، ولم يعد روّاد بيروت هم أنفسهم». يتذكّر لقاءاته بالمثقفين، والمعارضين العرب الهاربين من قمع الأنظمة، والفنانين، والشعراء. ميشال عفلق، والمهدي بن بركة، وسعدون حمادي... «هؤلاء كانوا روّاد بيروت. اليوم تبدّلت المدينة ومناخاتها وناسها».
حتّى رفيق الماركسي والثائر لم يعد هو نفسه، لكنّه ينظر إلى الواقع بكثير من المرارة: «غيّرت بيروت وجهها مراراً، دخلت الطائفية والمذهبية إلى أدق تفاصيل حياتها، وصولاً إلى الحياة الثقافية». ويذكّر بأن العاصمة اللبنانية، بالنسبة إلى الجميع، كانت معقل الصحافة الحرّة: «كان الصراع بين المطبوعات أيديولوجياً لا طائفياً. كان هناك بعثيون وقوميون وشيوعيون إلخ، بعيداً عن كل ما يوحي بالخلفيات المذهبية».
يرى الصحافي السبعيني أنّ الحرب الأهلية وما تلاها من «سلم أهلي»، قضيا على أحلام الصحافة اللبنانية التي باتت اليوم مجرد انعكاس للانقسام الوطني: «الأزمة مرتبطة أيضاً بالصحافيين الشباب الذين لا يقرأون، ولا يتابعون التطورات العربية والعالمية». ومع ذلك لا يستسلم الرجل لليأس، فـ«كل شيء ممكن، والتغيير ليس مستحيلاً. الحلّ يبدأ بالدولة المدنية التي ستخرج لبنان من محنته، وتخرج معها الصحافة من انغلاقها المميت لتستعيد حيويتها»... لا يزال رفيق خوري يحتفظ بعلاقة سريّة مع ذلك الشاب الذي كان ذات يوم يريد تغيير العالم: «عندما تعبر بالفكر الماركسي، لا يعود بوسعك أن تنظر إلى الأمور إلا من زاوية معيّنة».
5 تواريخ
1938
الولادة في بلدة مشتى الحلو (سوريا)
1958
اعتقل في سوريا بسبب إنتمائه إلى «رابطة الكتّاب»
1959
صدور كتابه الشعري «الزئبق والدم» (دار العلم للملايين).
1975
تسلّم رئاسة تحرير صحيفة «الأنوار» في بيروت
2010
يضع اللمسات الأخيرة على كتابه «من سنوات المحنة والمهنة» الذي يصدر قريباً، ويعيد فيه نشر أبرز المقالات التي كتبها على امتداد ٣٥ عاماً
تعليقات: