سوق اللوحات الإعلانية: فوضى ومحسوبيات ومخالفات

قبل...
قبل...


الحكومة أشارت إليه في بيانها الوزاري ولم تعمد الى ضبطه بعد!...

طريق المطار لـ"حزب الله" وبيروت لـ"أمل" ووسطها لـ"المستقبل"

في الطريق الى عاليه، وعند مفرق خطر، تتربص بالسائقين صورة فتاة تستمتع بأشعة الشمس الحارقة، ويحتل جسدها المثير لوحة إعلانية عرضها 4 امتار، لكن المعلن وشركة الاعلانات ابديا حرصهما على السلامة العامة فمهرا الاعلان بعبارة: "Keep your eyes on the road” اي ابق عينيك على الطريق. هو نموذج من فوضى اللوحات الاعلانية، التي تجتاح البلد من وسطه الى ساحله مروراً بمطاره، ولا توفّر الارصفة والمباني الحكومية. ولا يزال المرسوم اليتيم الصادر في 1996 بوصلة هذه السوق المزدهرة. ولم تقدم اي من الحكومات على تحديث وتنظيم هذه السوق، علماً ان البيان الوزاري لحكومة "أولويات الناس" الحالية ينص على هذا الامر. وهل صحيح ان "مناطق النفوذ"

الاعلانية موزّعة ما بين بعض السياسيين؟

على طول الطرق والاوتوسترادات تزدحم اللوحات الاعلانية، في مشهد تحكمه الفوضى غير المنظمة التي تقضي على ما تبقى من جمال الطرق والواجهة البحرية، و"تحتل" الارصفة وسطوح المباني والجسور بلا ضوابط، ما يتهدد السلامة العامة ويفاقم استباحة الانظمة من دون رقيب او حسيب، في الوقت الذي لا يؤمن المرسوم الرقم 8861 الصادر في 25 تموز 1996 الشروط اللازمة لهذه السوق التي تشهد ازدهاراً مطرداً ولافتاً منذ اعوام عدة. عدا ذلك، وخلال الازمات السياسية، تتحول اللوحات الاعلانية منابر للقوى السياسية "تنشر" عليها عبارات المدح والقدح وتشكل جزءاً من عدة الشغل الانتخابية في غير محطة.

هذه الاسباب، وغيرها، في ظل نمو الروح الاستهلاكية وتعميم ثقافة الاستيراد على قاعدة "كل شيء فرنجي برنجي"، واحياناً تحت لافتة عريضة مفادها اقناع المواطنين بالحل الانسب لمشكلة هي اصلاً غير موجودة عندهم، يطرح السؤال عن الاهمال الرسمي المتعمد لهذه السوق والاحجام عن تحديث القوانين والانظمة التي ترعى السوق الاعلاني اللبناني. وللذكر لا الحصر لا تزال البلديات حتى تاريخه تستوفي "رسم التعمير" وقيمته 10 في المئة من رسم الاستثمار، وهو رسم فرض بعد زلزال العام 1956 لاعادة اعمار ما تهدم، ما ينم عن عدم اكتراث بتحديث القوانين والمراسيم، علماً ان الاعلان يشكل واحداً من اقوى انواع الدعاية في تاريخ البشرية ويترك تأثيره الكبير في الناس، وهو اصلاً اساس الثقافة التجارية التي اضحت الركن الاول في معظم مفاصل الحياة الانسانية، مع الاشارة الى ان شركات الاعلان لا تنجح دائماً في ربط المستهلك بالمنتج من خلال الاعلان.

المرسوم 8861 للعام 1996

قبل صدور المرسوم 8861 في مثل هذا اليوم لاربعة عشر عاما خلت، تطرق المرسوم الاشتراعي الرقم 118 للعام 1977 (قانون البلديات) الى الترخيص للاعلانات في المادة 74، عندما حدد صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية في البلدية واناط به هذا الترخيص. علما ان هذا الامر لا ينسحب على بلدية بيروت لان رئيس السلطة التنفيذية هو المحافظ في استثناء يتيم املته التعقيدات الداخلية اللبنانية.

وبعد نحو عقدين على صدور المرسوم الاشتراعي 118 اصدرت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الثانية في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي المرسوم 8861 الذي حدد الشروط الواجب اعتمادها للترخيص للوحات الاعلانية، وهدف الى تنظيم السوق الاعلانية التي باتت تشكل رقما مهما في الدورة الاقتصادية الداخلية، يتجاوز احيانا النصف مليار دولار اميركي. ومن ابرز بنود هذا المرسوم تعريف الاعلان وهو "اي لوحة او يافطة (لافتة) او ملصق او منشور او احرف نافرة او علامة او صورة (...) يرمي الى الدعاية او الترويج لمؤسسة او اسم محل او بضاعة او تجارة (...) ويشمل ذلك الاعلان المضاء بالطاقة على انواعها. وجاء في المرسوم ايضا: "يراعى في مضمون الاعلان المحافظة على الشعور الوطني والسلامة العامة والآداب والبيئة والمناظر الطبيعية والابنية الاثرية والتاريخية".

وحددت المادة الرابعة من المرسوم 8861 قياس اللوحات الاعلانية والمسافة الواجب تركها بين اللوحة والاخرى (100 متر). اما المادة الخامسة من المرسوم فأكدت منع وضع الاعلانات واللوحات الاعلانية على انواعها في الاماكن الآتية:

- على مباني الادارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات.

- في الاماكن وعلى المباني الاثرية والسياحية وضمن شعاع 100 متر منها.

- على دور العبادة وتوابعها وعلى المدافن واسوارها(...).

- على اعمدة الانارة والكهرباء والهاتف والاشجار(...).

لكن اللافت ان اللوحات الاعلانية، في معظم الاحيان، يتم وضعها في تلك الاماكن، وخصوصا عند التقاطعات والمنعطفات والجسور وضمن الفواصل والجزر في وسط الطرق وعلى مداخل الانفاق ومخارجها... ما يشكل انتهاكا فاضحا للمرسوم المذكور من دون اي حسيب او رقيب.

اللوحات والمخالفات: "قدّ ما بدّك"

لحظ المرسوم 8861 حجم اللوحات الاعلانية والمسافات التي يجب ان تفصل ما بينها، والاهم من ذلك ان اللوحة الاعلانية يجب ان تبعد من الرصيف مسافة تصل الى 25 مترا، والمفارقة ان بعض اللوحات الاعلانية "مزروعة" في الارصفة وتعوق حركة المارة، كما هي الحال على بولفار الرئيس كميل شمعون، حيث زرعت احدى شركات الاعلان لوحاتها في الارصفة ما يجبر المارة على الالتفاف حولها لاكمال طريقهم.

اما قياس اللوحات الاعلانية فمنها قياس 4X3 اي يكون عرض اللوحة 3 امتار وطولها 4 امتار ويجب ان تفصلها مسافة 100 متر عن اللوحة الثانية وكلما زادت مساحة اللوحة زادت المسافة التي يجب ان تفصلها عن الاخرى لتصل الى كيلومتر، مع الاشارة الى ان الانظمة تمنع وضع لوحتين متلاصقتين لكن الحال على عكس ذلك.

هناك صعوبة في ضبط المخالفات وفق بعض المسؤولين في البلديات، لان شركات الاعلانات تلجأ احيانا الى طلب الترخيص لعدد محدد من اللوحات، في الوقت الذي تعمد تركيب ضعف العدد المشار اليه، من دون ان تصرّح عنه للبلدية المعنية علما ان المداخيل التي تحصل عليها البلديات من الاعلانات تشكل، احيانا، تعويضا عن عدم استيفاء الرسوم من المواطنين، ما يدفع بعض البلديات الى غض النظر عن المخالفات في سوق الاعلانات.

مناطق نفوذ سياسية اعلانية

مخطئ من يظن ان الاحزاب اللبنانية لا تهتم بأمور اللبنانيين حتى أدق تفاصيلها، ويظهر ذلك جليا في سوق الاعلانات حيث تحرص بعض هذه الاحزاب على متابعة امور السوق عن كثب، الى حد تحديد المناطق والطرق لكل شركة. ووفق المواكبين لسوق الاعلانات ان اصحاب بعض الشركات الاعلانية يحظون بحماية المرجعيات السياسية، اذ تؤمن لهم الاخيرة غطاءً فيها، ما يدفعهم الى بسط نفوذهم على بعض المناطق. ويضيف هؤلاء "على سبيل المثال ان مقربين من حركة "امل"، وبسبب علاقات مصاهرة تربطهم برئيس مجلس النواب نبيه بري، يسيطرون على معظم اللوحات الاعلانية في العاصمة بيروت، باستثناء وسطها التجاري الذي بقي من نصيب مقربين من تيار "المستقبل". علما ان اغلى الاعلانات في لبنان هي التي في الوسط التجاري، تليها الاعلانات على الاوتوسترادات البحرية شمال العاصمة وهي من نصيب المقربين من احزاب 14 آذار المسيحيين، فيما يسيطر مقربون من "حزب الله" على السوق الاعلانية على اوتوستراد المطار. ولكن هذا التوزيع لا يمنع ان يحظى مقربون من وزراء حاليين وسابقين ببعض اللوحات في تلك المناطق.

مصلحة مياه ام شركة اعلانات؟

يمنع المرسوم 8861 تعليق لوحات الاعلانات على جدران مباني المؤسسات العامة والبلديات، لكن زائر مدينة صيدا تلفته لوحة اعلانية ضخمة بقياس (12X4 امتار) فوق مبنى مصلحة مياه صيدا. ووفق المعلومات ان صاحب شركة الاعلان هو احد الموظفين في المصلحة ويعمد احيانا الى رفع صور ضخمة للرئيس الشهيد رفيق الحريري على احد وجهي تلك اللوحة، فيما يترك الوجه الآخر للاعلانات التجارية، تارة للمصارف وتارة للاعشاب وغيرها.

ورغم ضخامة اللوحة الاعلانية لم تحرك بلدية صيدا ساكنا، ولم يعترض احد على مخالفة القانون وخصوصا المادة 5 من المرسوم 8861.

وهذه ليست المخالفة الوحيدة في لبنان فهناك عشرات، لا بل مئات الامثلة على المخالفات، وتكفي جولة على بعض البلدات اللبنانية او العاصمة بيروت لاكتشاف هذه المخالفات. ومنها ايضا استعمال جدران المباني والشارات الضوئية وعواميد الكهرباء والهاتف لرفع اللوحات الاعلانية، عدا عن استخدام الاضواء التي تتسبب في حوادث السير، خصوصا على الاوتوسترادات.

من جهة اخرى، تتقاضى البلدية بدل الاعلانات تبعا لمساحة اللوحة الاعلانية وتدفع شركة الاعلان رسم 2000 ليرة على كل متر مربع، يضاف اليها 12 الف ليرة كرسم ترخيص، اضافة الى بدل القيمة التأجيرية ورسم الكشف، واخيرا رسم التعمير لاعادة اعمار المباني المهدمة في لبنان جراء زلزال العام 1956.

تنظيم القطاع: أولوية

جراء ازدهار سوق الاعلانات وزيادة الطلب على اللوحات الاعلانية ارتفع عدد شركات الاعلان، وتردد انه بات حاليا يفوق الـ50 شركة، علما ان الوسطاء بين المعلنين (الزبائن) وشركات الاعلان هذه هم الممسكون بهذه السوق الضخمة، ما يدفع بعض اصحاب الشركات الى المطالبة بتنظيم هذا القطاع. وفي السياق يقول مدير عام شركة "وعد غروب للاعلانات" عدنان حمورة ان "الاولوية تبقى دائما لتنظيم قطاع الاعلانات في لبنان، لانه يُشغل شريحة واسعة من اللبنانيين، بدءا من المطابع وصولا الى العمال الذين يركبون اللوحات مرورا بالمصممين والمنفذين للاعلانات وغيرهم، كما ان اصحاب الاملاك الخاصة يتقاضون بدلات ايجار عن كل لوحة اعلانية ترفع على املاكهم بعد ترخيص البلدية المعنية". ويرى حمورة ان تحديث الانظمة والقوانين يساهم في تنمية القطاع ويصر على اتباع المعايير الموحدة عن الوسطاء واعطاء الفرص العادلة للجميع والسماح لشركات الاعلان بتعليق اللوحات، خصوصا في بيروت وليس حصرها بشركة او شركتين".

من جهته يرى رئيس مجلس ادارة شركة "بروموميديا" عماد جمعة ان "فوضى اللوحات الاعلانية في لبنان غير موجودة في اي بلد في العالم، خصوصا ان عدد اللوحات يناهز الـ10 آلاف، بينها فقط 300 لوحة مرخصة وفقا للاصول القانونية، فيما تعتبر نحو 7000 غير قانونية. واللوحات المتبقية حصل اصحابها على تراخيص خلافا للاصول".

ويشير الى ان "مدينة بيروت من اكثر المناطق اللبنانية التزاما بالقانون، وبالتالي تغيب الفوضى المنتشرة في المناطق الاخرى، خصوصا على الاوتوسترادات".

ويؤكد انه وغيره من اصحاب شركات الاعلان ينتظرون صدور قانون ينظم هذه المهنة "لان الفوضى الحالية والتجاذبات السياسية والطائفية تتحكم بهذه السوق". ويجزم بان شركته لا تتبع لاي حزب ولا طائفة، وهي "عرضة للمضايقات".

في ظل هـــــذه الحال السائدة عـــــالم الاعلانات ومتفرعاته هل من توجه حكومي جدي لوضع حد لهذه الفوضى، والاهم من ذلك هل ان البيان الوزاري للحكومة الحالية وُضع لينفّذ ام انه "كلام للبيان والتبيين"؟

… وبعد.
… وبعد.


لوحة اعلانية في نطاق مصلحة مياه صيدا
لوحة اعلانية في نطاق مصلحة مياه صيدا


واخرى وسط الرصيف.
واخرى وسط الرصيف.


عدد من اللوحات على جانبي اوتوستراد المطار
عدد من اللوحات على جانبي اوتوستراد المطار


تعليقات: