من اليمين الفنان وأميمة الخليل
متجنّباً فخّ النوستالجيا ومنتهراً باعة الهيكل..
بعد جولة صيفيّة على شفشاون المغربيّة، وجربة التونسيّة، والمحافظات السوريّة، يحطّ الفنّان اللبناني رحاله في عاصمة الأمويين، حيث يحيي حفلتين استثنائيتين في «قلعة دمشق». يجمع البرنامج بين ألق البدايات وإضافات المرحلة الأخيرة. استعادة لمسيرة عمرها 35 عاماً
برنامج الحفلة التي يقدّمها مرسيل خليفة، غداً وبعده في قلعة دمشق، يجمع بين قديمه المعروف والمحبّب، وعدد من المفاجآت. إضافة إلى الأغنيات والمقطوعات التي ألّفها في مراحل مختلفة، سيؤدّي صاحب «خائف من القمر» ـــــ بمشاركة فرقة «الميادين» التي باتت تضمّ مغنّين وعازفين من لبنان، وسوريا، ومقدونيا، وفرنسا، والنمسا (راجع الكادر) ـــــ ألحاناً ومقدّمات ومواويل أعاد توزيعها حديثاً. وسينشد للمرّة الخامسة «الآن في المنفى» (من ديوان «كزهر اللوز أو أبعد» لمحمود درويش)، بعدما أهداها إلى روح الشاعر خلال تأبينه في الجامعة الأردنية، وأدّاها في حلب وباريس وأصيلة (المغرب). تتميّز تلك الأغنية بالمرافقة الوترية المكتوبة للعود (خليفة) والكونترباص (مارك هيلياس).
«في عصر الانحطاط الثقافي» و«زمن الصمت والانهيارات والترويض البذيء» على حدّ تعبيره، يطلق خليفة صرخة «غضب على آثام الحرب». يبحث عن «ضفاف ومفردات أخرى للتعبير النظيف عن العالم». وقبل كلّ هذا، يرقب النصّ الموسيقي العربي بمنظار أبيض، و«يشتغل اشتغالاً علميّاً صارماً، وفنّياً مطلقاً». أهمّية خليفة تكمن في قدرته على الارتقاء في الشعر العربي المغنّى، والانتقال من حدوده الإيديولوجية و«لوثته» الخطابية إلى بعده الكوني. وهذا ما نجح درويش في تحقيقه حين نقل معاناة الجرح الفلسطينية إلى الوجدان الإنساني العام، واستند إلى مرجعية أخرى لمفهوم الشعريّ وطبيعته ووظائفه. درويش وخليفة سارا في خطّين متوازيين، فنشأت علاقة استمرارية تطوّرية بينهما، حتّى بات بوسع النقّاد مع السنوات أن يتحدّثوا عن «توأمة» فنّية.
صاحب «فالس زنجران» لم يغنِّ قصائد درويش فحسب، بل لحّن أيضاً الشعر العامّي والحديث والصوفي (الحلاج، وأدونيس، وقاسم حدّاد، وطلال حيدر، وبطرس روحانا، وعباس بيضون، وخليل حاوي، وشوقي بزيع، ومحمّد العبدالله، وحسن العبدالله، وحبيب صادق...). وقد وقع اختياره على باقة من تلك القصائد ـــ تحديداً لدرويش والحلّاج وأدونيس وطلال حيدر... ـــ لتقديمها في دمشق برفقة «صاحبة الصوت الملائكي» أميمة الخليل، ورفيقة دربه يولاّ كرياكوس، وثمانية منشدين ومنشدات (بينهم ليندا بيطار، ونهى ظروف...). علاقة خليفة بالشعر ليست عابرة. كبار شعراء التفعيلة و«شعراء الجنوب» وبعض «شعراء الحداثة» مدينون لصاحب «جدل»، والعكس صحيح. لكن الموعد الدمشقي لا يتلفّف بالنصّ الشعري فحسب، بل «يعيد تأثيث فضاء إيحاءاته»، فيبعث الإيحاء «أصواتاً متنوّعة» بتعبير صاحب «كحل».
يتخلّل البرنامج موّال «قومي اطلعي عَ البال» (أسطوانة «تصبحون على وطن»، 1990)، وأغنية «سجر البنّ» (ألبوم «ركوة عرب»، 1995)، و«سيف» (الأغنيات الثلاث من شعر طلال حيدر)، إضافة إلى «الكمنجات» و«ديما» (غناء أميمة الخليل)، و«تعاليم حورية»، و«يا ساري» وموشّح «يا نسيم الريح». أمّا «أجمل حبّ» (أسطوانة «من أين أدخل في الوطن»، 1978)، فطُعّمت أخيراً بالكلارينت (إسماعيل رجب) والناي (مسلم رحّال).
ولا بد هنا من التوقّف عند «تانغو لعيون حبيبتي» التي ستكون للجمهور الدمشقي فرصة استعادتها (من «حلم ليلة صيف»)، للإشارة إلى ألقها وارتكازها على الأكورديون (أنتوني ميليه). أما فراس شهرستان (قانون)، ومحمّد عثمان (بزق)، وكنان إدناوي (عود)، وبشّار خليفة (إيقاع)، فيتهيّأون لتأدية تنويعات على مقامَي البياتي والسيكاه، بمشاركة ألكسندر بيتروف (طبل). فيما يقدّم رامي خليفة (بيانو) وصلاته المدوّنة والارتجالية.
في البرنامج الدمشقي، ما يعيدنا إلى بدايات صاحب «وعود من العاصفة» (1976)، ومرحلة النهوض الوطني والثقافي والفنّي. استعادة «ريتا»، و«جواز السفر»، و«أمّي» وغيرها من كلاسيكيّات السبعينيّات والثمانينيّات، لا تهدف إلى إثارة النوستالجيا. بل تؤكّد «مشروعاً ثقافيّاً» لهزّ «هيكل الانحطاط المحروس بالمال»، كما يقول خليفة. لم يقتصر التزام الموسيقي اللبناني على القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة فحسب، بل تعداه إلى الإبداع نفسه، والعلاقة بالموسيقى العربية ومشروع العود. وهذا ما لم يدركه بعض النقّاد والمثقّفين حين قرّر خليفة الانصراف إلى مشروعه التأليفي عام 1996، فاتُّهم بالتخلّي عن التزامه الفكري.
بعد كتاب «السماع» (يتضمّن لونغات وسماعيّات وبشارف)، و«جدل»، و«كتاب العود» (المركز التربوي للبحوث والإنماء)، قدّم «متتالية أندلسية» للعود والأوركسترا (2002) و«رباعي العود»، إضافة إلى منهج حديث للعود لم ينشره حتّى الآن. «في هذه المؤلّفات موسيقى تطلّ من قصر الحمراء في غرناطة على التراث الأندلسي» يقول. ويضيف: «أذهبُ بعيداً في الموسيقى العربية والعالمية، إلى بحث علمي وفنّي عن الشكل والصيغة، لأقترب من المنابع، من زرياب مثلاً». وقد أراد «لآلة العود أن تشكّك في ما هو قائم لتنفتح على نفسها». صاحب «الزغاريد»، و«أغاني المطر»، و«الجسر»، و«أحمد العربي» واظب على التأليف، فأطلق «مداعبة» (2004)، و«شرق»، و«تقاسيم» (2007). وتأتي أمسيته الدمشقية بعد جولة في المحافظات السورية «احتفاءً بكتابة موسيقية مغايرة، ونصّ غنائي حارّ مهجوس بالبحث عن بداية متجدّدة».
تعليقات: