.. كنا في الطريق إلى بيروت، وكان مقرّراً أن نواصل المسير إلى وجهتنا، لكنّ مرافقيّ العزيزين أصرّا علي التوقّف لتناول الفطور ، ولم يكن بإمكاني سوى الإذعان وإلا فإنّ التذمر سيكون سيد الموقف بقية الرحلة.
نزلنا في طلب ما نسكت به جوعنا الصباحي، وما إن اقتربت من المدخل حتى سارعت نحوي فتاة صغيرة تحمل كيساً من التحف المزينة والعلَاقات الصغيرة ، وبلهجة من يريد التملّص بحذاقة ولا يجيد المماكسة سألتها عن سعر واحدة من تحفها المعروضة بعقد أصابعها الصغيرة، وحين أفصحَت بحزمٍ عن السعرعاجلتُها بالرفض وأكملتُ مسيريَّ إلى الداخل.
لم تغب عن ناظريّ ، فقد كانت تتجول ذهاباً وإياباً في المساحة الواسعة لموقف السيارات، وكنت أراها من وراء واجهة زجاجية مكنتني من رصد حركتها العشوائية، وإصرارها الثابت على التحرّش بالمارّة سعياً وراء بيعٍ قليل وربحٍ زهيد..
لا أخفيكم الشعور بذنبٍ طاولني جرّاء صدّها ، فأنا واحدٌ من أولئك الذين دافعوها تجاهلا، وإن كنت أقلَّ قسوة، ولكنني في النتيجة شريكاً في قسوة مفترضة.
كلما نظرت إليها تولّدت لديّ أفكار متأرجحة بين الحزن حيناً والإعجاب أحيانا، بين الشفقة تارة والنقمة تارة أخرى، ورأيت نفسي متضامناً معها إلى حدٍّ دفعني للخروج اليها.
إقتربت منها بصورة من راجع حساباته وأراد أن لا تفوته فرصة الغنيمة من بضاعةٍ قلَّ نظيرها، ورحت أقلّب في ما تحمله براءة الطفولة من قسوة الزمن، لأشتري خفقة فرحٍ من قلبٍ متعب!.
دفعتني الصفقة العجولة بلهفة لسؤالها عن اسمها.. وبحياء قالت : سكينة! وما أعذب رنين الأحرف حين تناثرت كمعزوفة ساحرة في ليلة مقمرة..
إنتهى اللقاء وتابعنا المسير وراحت تتقاذفني الأفكار وكانت سكينة محورها، قادتني تلكم الأفكار لحقيقة مرّة مفادها أنَّ وطني الجميل لا يخلو من العنصرية البغيضة، فسكينة من أناس منّت عليهم السلطة بالهوية مؤخرا ، ويا لفرحتهم بمواطنة لا رصيد لها، ولا كرامة معها..
سكينة تنتمي لفئة أطفال الشوارع المتسوّلين، المستوطنين للدروب ، المتعبين ، المتحرّقين بالشمس صيفا، والمشبعين بالمطر شتاء، سكينة (نوريّة) لا مكان لها على مقاعد الدراسة، ولا الكتاب صديقها، وليست لديها دمية مدلّلة، ولم تعرف هي معنى الدلال أيام المرض، وما نعم كتفها بطابع اللقاح، ولا اختال جسمها يوماً بجديد الثياب أو حتى نظيفها..
ساعات وتنتهي مهمتنا في العاصمة فنقرر العودة، وننطلق مجدداً باتجاه معاكس، كانت صورة سكينة قد تلاشت وحلّت محلها صور متفرّقة ، لكنَّ التحفة كانت تعيدني لوجه صاحبتها، فأرمقها إعجاباً وحبًّا وأعود لتسلسل الأفكار الذي لا ينتهي..
إنذارٌ آخر استوقفني هذه المرّة لم يكن صوت ولدي المؤذن بجوع الظهيرة، أو سؤال ابنتي عن ساعة الوصول، وإنما كان جوع السيارة للوقود، فقصدت المحطة للتزوّد، وعندها كان الحدث الذي هزّني من الأعماق، فقد رأيت طفلة تقترب منّا وتلوح بيدها الصغيرة التي أحببت وتفرج شفتاها الرقيقتان عن ابتسامة هادئة، وعلى غفلة مني يكتمل المشهد روعة حين أرى سكينة وولديَّ يتبادلان المحبة التي أريدها نخلةً أبديةً في قلبيهما.
التقيت سكينة صدفةً أخرى، ولكنّها لم تكن تلك البائعة الصغيرة هذه المرّة، إنما كانت إنساناً جميلاً جداً جاءني مبادلاً الحبَّ بالحبّ، وهمساً من حياءٍ مرّحبٍّ بلقاء المختلف المشابه في منتصف الطريق!..
فاتني عند الإفتراق أن أحتفظ بصورة لسكينة، لكنَّ احتفار الإسم والمسمّى في ذاكرتي المشرعة سيحفظ تقاسيم الوجه وجمالية الروح..
الشيخ محمد قانصو
كاتب وباحث لبناني
Ch. m. kanso@hotmail. com
تعليقات: