جلسة العزاء بضحية التهريب (مصطفى جمال الدين)
مـلأوا القاعـة ضحكـاً وغنـاءً.. وأخبـروا النـاس عـن الحيـاة وعـن موتهـا..
في صالة انتظار «مسرح دوار الشمس»، جلس أناس مختلفون. لم يتوحّدوا لا على لون البشرة، ولا على السن، ولا على الجنسية، ولا على الطبقة الاجتماعية، ولا على التوجّه المهني. هم حضور متنوع بقدر ما يمكن للجوء القسري وأصدقائه أن يتنوعوا.
العرض المسرحي الذي ينتظره هؤلاء المتنوعون، يأتي كنتيجة لورشة عمل في إطار المسرح العلاجي، أمّنها للاجئين عراقيين في لبنان المخرجان في الفرقة المسرحية والجمعية الثقافية «زقاق» لميا أبي عازار وعمر أبي عازار، ونظمتها مؤسسة «عامل» ضمن مشروع «التدخل النفسي الاجتماعي»، وموّلتها جمعية «دي آر سي» الدنماركية المعنية بشؤون اللاجئين.
أما أصحاب العرض فهم بدورهم متنوعون: 18عراقياً ولبنانيان، شابات بملابس متحررة صيفية أو بحجاب سريع الذوبان في حركة المسرح والأداء. ومعهم شبّان، من أعمار مختلفة، وصولاً إلى بعض الشعر الأبيض الذي غزا مفرقي أحدهم، من ذوي الحاجات الخاصة ومن ذوي الأصوات الغنائية. لهجاتهم بدورها تتنوع، من المفرط في عراقيته وصولاً إلى اللبنانية المحكية. أما موضوع العرض الذي أنتجته أفكارهم وآراؤهم فيدور حول اللجوء وأسبابه أولاً، لكن أيضاً حول تفصيل شديد الأهمية فيه: القدرة على الهرب من وضع مأساوي، بوسيلة كثيراً ما تودي باللاجئين إليها إلى الموت، الهرب تسللاً.
فعندما تُلغى رحلة الطائرة المتجهة إلى ألمانيا، والتي احتشد لأجلها 18 شاباً على خشبة المسرح / صالة انتظار المطار، لا تبقى وسائل كثيرة متاحة أمامهم، نظراً للوضع الأمني الذي ينتظرهم خارج هذه الصالة، في بلد استباحته النار. ولماذا تُلغى الرحلة؟ لسبب أزعجهم كثيراً: «إلى جميع المسافرين على متن الرحلة رقم 325 المتجهة إلى هامبورغ، نبلغكم بأن الرحلة قد ألغيت لأسباب أمنية، نظراً لوجود جنسيات عربية على متن الطائرة».
لم يختر المرء جنسيته العربية، ولا اختار المواطن حرباً في العراق، ولا الخروج من الجنسية والعراق متاحاً.. فكانت الصيحة الاعتراضية تميل بالركاب الشباب ناحية «التهريب».
المسرحية القصيرة المدة، بدت أمينة على حياة الناس. لم يظهر اللاجئ فيها كقضية متنقلة، ذات وطأة ثقيلة، وألم مستمر، فحسب! لقد ضحكوا وأضحكوا جمهورهم كثيراً، خلال العرض. هناك شخصية تفرّغت للتسبب بالضحك في القلوب، قبل أن تعود في نهاية العرض وتختمه بموالٍ يطبع القلوب ذاتها بختم العراق الشهير بعمق الوجع في مواويله.
فلنبدأ من البداية.
تطل لميا أبي عازار على الخشبة لتقدّم العرض: العمل من إخراج وتنفيذ وإنتاج الشباب الذين كتبوا نصه أيضاً. في ظرف عشرة أيام فقط، صنعوه. تنقل لميا سعادتها وسعادة عمر، في العمل ضمن ورشة العمل مع الشباب الذين كانوا 28، وانتهوا 20، لضرورات الحياة التي أبعدت الثمانية عن التتمة، لكنها لم تبعدهم عن الصالة. كانوا هنا يشاهدون أصدقاءهم والعرض.
تكمل لميا: سيفتح هذا العرض أمام الجمهور العريض في شهر تشرين الأول المقبل، ضمن أعمال يوم طويل للاجئين تنظمه مؤسسة «عامل» من ضمن مشروع «التدخل النفسي الاجتماعي». تشكر الجمعيات المنظمة والممولة، وتتمنى لو يُمنح الشباب المزيد من الوقت يقضونه في الإنتاج المسرحي. تلك هي رغبتها ورغبة عمر، وتلك هي بشكل أساسي رغبة الشباب. هؤلاء الشباب غير المحترفين الذين أظهروا ميلاً فنياً وأنتجوا عملاً في عشرة أيام، يستأهلون المزيد من الأيام في لجوئهم، ليفكروا بالفن، ويمارسوه، وينتجوه. ففي الصحف وعلى الشاشات، يحتل موضوع اللجوء مساحة كلام واسعة. هم، خلال هذا العرض، تكلموا عن أنفسهم. قاربوا لجوءهم، وأعلنوا أسبابه، وعرضوا مشاكله، بروح مرحة عالية، مثلوا وغنوا، وملأوا المسرح بحضورهم، وقفوا على الخشبة وواجهوا جمهورهم بجرأة المحترفين، وبرقّة الهواة. يستأهلون مساحة زمنية إضافية، كي لا يصبح المسرح العلاجي جزءاً من اللجوء، لا يتحكمون بمدته، ولا يتحكمون بغده.
على كل حال، يبقى القرار هنا لأصحاب القرار في الجمعيات الناشطة في دعم اللاجئين، لعل وعسى يتمكنون تطويع العقبات التي تحول دون ذلك، فيتم منح اللاجئين مساحة ليكونوا كما يشتهون، خارج الظروف الحاكمة.. على خشبة مسرح، لا أكثر.
فماذا فعل هؤلاء الشباب على الخشبة، ليل أمس الأول؟
ديكوران على المسرح يستقبلان الوافد إلى الصالة: جلسةٌ تبدو وكأنها في مقهى شعبي، كراسي قش، وطاولة صغيرة عليها لعبة نرد. وجلسة أخرى إلى يسار الخشبة، تبدو وكأنها في صالون بيت عادي، كنبة عريضة وأخرى صغيرة وطاولة. من الصالون، يبدأ العرض الذي اتسم بالبساطة وقد صنعت الإضاءة تقطيعه.
ثلاثة شبان وصبية ورجل. يتناقشون في صعوبة العيش، فيعلن الشاب ذو النظارات الطبية أنه يعتزم السفر «تهريب». يؤنبه الرجل والصبية على خيار كهذا يؤدي بالكثيرين إلى الموت، وينصره الشابان اللذان يجدان أن مصيره سيكون كمصير سواه، إما ينجو ويبدأ حياة جديدة تستحق العيش، أو يموت كما مات كثيرون لا يقلّون عنه شباباً وأملاً بالحياة. تنتهي الجلسة على خلاف.
يضاء النور في ناحية المقهى، حيث جلس رجل بالعقال والكوفية البيضاء، في مواجهة آخر بملابس العمل، وقد لفّ رأسه بكوفية سوداء، يخدمهم صبي المقهى. تعلو أصوات الـ«شاش باش» والنرد وضجيج الفناجين. يصل الفنان، وهو الشخصية الظريفة في العرض، ليلقي بـ«سماجته» عليهم. يسأله الصبي عن المشروب، فيطلب الطعام. يشرح له أنه في مقهى: «شاي، قهوة، نسكافيه، كابوتشينو»، يطلب شورباء. على كل سؤال، يمتلك إجابة شديدة «السماجة»، فمضحكة. من أين أتى، هو وعوده؟ من شرقي، غربي، من هنا وهناك، ويده تمتد إلى أعلى بعيد. يطلبون منه الغناء، فيعدهم بأغنية «من كرزاتي وخوخاتي، آنساتي سيداتي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ... البحر من أمامكم والعدو من ورائكم...». يقاطعونه وقد فقدوا الصبر: أنت شيخ جامع أم فنان؟ يقول: قاب قوسين أو أدنى.. يهجمون عليه، يردّهم واعداً بالغناء. يطالبونه بغناء القديم، فيتهرب. والجديد؟ يتهرب. يقول له عامل المقهى: يا أخي، غنّي ولو «حاركب الحنطور»، تضحك الصالة. يجيبهم بفصحى الكلام غير المفهوم. شيخ؟ «لا شيخ ولا بطيخ!... خسيس ذليل إتفو!». يدوزن عوده وقوفاً، حاشراً العود بين ساقيه. الشاب خفيف الظل، يتلقى الطرد والضرب المسرحي، وينتهي المشهد بتصفيق الأصدقاء والزملاء والأهالي.
بعد المقدمة التي تسعى لوضع المشاهد في أجواء يوميات العيش، يأتي مشهد المطار، وقد غزا الشباب الخشبة. يحبطهم إلغاء الرحلة، فتعلو صيحة باتجاه التهريب. عتم على الخشبة، ثم إضاءة: حشد منهم على متن خشبة مستطيلة، كأنها عبّارة في المياه، يطلون من عتم يكسو المسرح، كأنهم في وسط اللامكان، في حالة انتقال إلى مكان آخر. مشهد جميل فنياً. أصواتهم تخبر عن العطش والجوع والأيام الطويلة التي تنتظر الرحلة، صيحات سريعة تخبر بذلك، قبل أن تباغتهم الشرطة، وينفك عقدهم، وتنتهي الرحلة بصياح الهرب، وسقوط قتيل.
ترحل الشرطة التي لا نراها لكننا نفهم دورها، ويبقى القتيل في مواجهتهم على الأرض.
«لا إله إلا الله.. وحّدوه». صيحة تستبق قيام جنازة، مشهد عربي بامتياز، جسم شاب ممدد على أكتاف شباب، يرفعونه عالياً ومن حوله يسير الآخرون، صورة يومية، جزء من حياة الناس هنا، ولو أنه موت.
يرافق السير في جنازة موال عراقي حزين يرفعه صوت قوي يمتلكه أحد الشبان: «والله لا يسوى أعيش الدنيا من دونك... وكيف أصبر ع البعاد، وكيف أنثر هالورود».
جميلة مساحة التنوع في العرض. فعندما يسمع المرء صيحة «وحّدوه»، يخشى على الكلام من انجرارٍ ديني، إلا أن الشباب قدموا عرضاً يحفظ للمجتمع تنوّعه، وحقّه بالتنوع. ففي العزاء التي واجهت كراسيه كراسي الجمهور ببساطة لا تتناقض مع شعور بالجلال، يقف أمام الجثمان المسجّى أيضاً بشكل موازٍ لكراسي الجمهور، المسلم فيقرأ الفاتحة، والمسيحي يرسم الصليب على صدره (بلا استعراضية)، والمحجبة، والتي ترتدي الملابس الصيفية الخفيفة والمنحسرة عند الساعدين، وصولاً إلى الشاب ذي الشعر الطويل الذي لا يبدي أية مظاهر دينية، وإنما يكتفي بمسك يد الضحية، قبل أن يجلس إلى كرسيه في العزاء.
يسري في العزاء ما يفيد بأن الشاب قُتل ولم يمت. فتعلو الصيحات الغاضبة ومعها الوقفات الدرامية على الخشبة، وهي، على تقليديتها، تتطلب من خريجي ورشة عمل لم تدم أكثر من 10 أيام، قوة حضور وثقة: «كيف؟ مين؟ ليش؟ خيّ مقتول؟! مش أول واحد ولا آخر واحد! إنتو السبب، 100 مرة قلت لكم ما تروحوا تهريب، ما تموتوا تهريب! متل الغربة، ما مرّينا بهيك صعب! لو في عدل، وحق بالدنيا شوي، ما كنا عرفنا كلمة لاجئ».
كانت التراجيديا تسيطر على الموقف، عندما.. نرى الفنان يحاول، من الخلف، أن يدس نفسه بين وقفتهم المتشنجة على المسرح، في مواجهة الناس، ولا يجد لرأسه منفذاً. يكسر وطأة الموقف، فتنفجر القاعة ضحكاً، حتى أن زميله على الخشبة لم يتمكن من كبت ضحكه، لثوانٍ.. لقد حمل عنا وزر شباب يصيحون بانعدام سبل الحياة أمامهم، في بلدهم وخارجها.
وما أن يهدأ ضحك القاعة، حتى نسمع صوت الفنان، هو ذاته، وقد اتخذ لنفسه موقعاً على طرف المسرح، إلى جانب الشباب، يصدح بموال مجروح:
«بما التعلل؟ لا اهلٌ ولا وطنُ / ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ / فكم قد قُتلت وكم قد متُّ عندكمُ / ثم انتفضتُ فزال القبرُ وزال الكفنُ».
تصفيق. إضاءة. انحناءة الفنانين الشباب. نهاية العرض.
تركوا الخشبة واجتاحوا الصالة ليتلقوا التهاني والملاحظات.
عشرون شاباً، أخبروا قصتهم مثلما اشتهوا وببساطة. لم تعد مشاعرهم محبوسة بينهم، أخرجوها قليلاً من داخلهم، لتتهوى بيننا.
لذلك، ولأنهم خرجوا من بلد حياته موت إلى بلد لا يحلو له كثيراً التعامل مع اللجوء.. هم يستأهلون المزيد من الوقت، على خشبة مسرح.
تعليقات: