إحدى المحتجّات على مسلسل «السيّد المسيح» أمام المركز الكاثوليكي للإعلام الجمعة الفائت
يا للهول. برنامج تلفزيوني عن المسيح لا يحظى بموافقة الكنيسة. يا للهول. المركز الكاثوليكي للإعلام رفع الصوت عالياً. هو يتخصّص، إذا شئتم (وشئتنّ) بالنقد الفنّي والأدبي ولا علاقة لذلك بالمنع والتحريم والترهيب وفرض أصول الرقابة «الأخلاقيّة». لكن من الضروري التساؤل عن جدوى «المركز الكاثوليكي للإعلام» في القرن الحادي والعشرين، أو حتى جدوى وزارة الإعلام. طبعاً، إن وجود مركز كهذا (بمسمّيات مختلفة) كان من ضرورات القرون الوسطى. لكن ما علاقة السلطات الدينيّة بالتأثير على الإعلام؟ والمُمتع كان مشهد وزير الإعلام (وهو وزير ثقافة سابق) يثني على قرار المنع («هيدا لبنان» كما يقول عنوان فيلم الرفيقة إيليان الراهب)
ليست هذه المرّة الأولى التي يطلع بها علينا المطران بشارة الرّاعي بفتاوى من مخلّفات القرون الوسطى التي يبدو أن حنيناً يشدّه إليها. نذكر أن المطران الراعي هو الذي أصدر الفتوى المُطنطِنة قبل سنتيْن بإعلان «الحرم الكبير» على من يجرؤ على أن ينتقد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. «الحرم الكبير» في القرن الحادي والعشرين. كان هذا الإعلان في بلد ديموقراطي سيُقابل بمعارضة واستفظاع شديديْن. ولأن ما يسمّى في بلادنا «الليبراليّة» (يشكو العالم العربي من افتقار عميق لفهم معاني المصطلحات الأيديولوجيّة فيطلع فاشيّون رجعيّون ووهابيّون بأوصاف لأنفسهم أنهم «ليبراليّون») ينتمي إلى فريق حريري ـــــ سعودي التمويل ومُتحالف مع البطريركيّة المارونيّة، فإن كلمة أو همسة لم تصدر عن هؤلاء الذين يتشدّقون أربع مرّات في اليوم عن الحريّات والديموقراطيّة وحب الحياة وحب التحريم إذا لاءم. ماذا كان رد فعل هؤلاء على وزير الدفاع الهزلي (الذي باتت حالته تحتاج إلى تحليل نفسي لا سياسي) والذي وصف صحافيّاً شجاعاً وقديراً بأنه «العميل الإسرائيلي الرقم واحد»؟ ماذا كان ردّ فعل هؤلاء
السرديّة الإيرانيّة في فيلم «المسيح» تتوافق مع السرديّة القرآنيّة
على قتل إسرائيل لعسّاف بو رحّال؟ لو كانت الرصاصة سوريّة لكانت الجماهير لا تزال محتشدة قرب ضريح ذلك الذي «يحسب أن ماله أخلده». لو كنّا نأخذ مركز سمير قصير على محمل الجدّ (لا الهزل) لكنّا تساءلنا عن سبب خفوت صوته أو همسه عن مقتل عساف بو رحّال وعن تهديد وزير طائرات الميغ الروسيّة لحسن علّيق، لكن لا يجوز التساؤل، وخصوصاً أن جيزيل خوري (التي تستسيغ مخاطبة محمد دحلان بـ«أبو فادي») دعت في برنامجها إلى قطع كل الأشجار في العديسة لتحسين الرؤية أمام عدسات كاميرات التجسّس الإسرائيليّة.
المطران الراعي كسب مكانه إلى جانب المتحاورين (أو المتصارعين) على طاولة الحوار التي يرعاها رئيس جمهوريّة لبنان. كيف لا وهو ينتمي بالممارسة إلى فريق سياسي متحمّس ولا تخلو أحاديثه من مواقف سياسيّة (حادّة) حول كل المواضيع المطروحة. يكاد يشارك في التصويت في مجلس النوّاب ويجب أن ينضم إلى «الأمانة العامّة» لـ14 آذار. والمطران الراعي ناقد فنّي وديني ويلعب كل الأدوار المطلوبة منه بثقة طائفيّة بالنفس، وهذا من دلالات النجاح في الصراع والتأجيج الطائفي في مسخ الوطن. المطران الراعي هاله أن تعرض محطّتان تلفزيونيّتان برنامجاً عن حياة المسيح من دون رقابة الكنيسة والأمن العام، ومن دون موافقة المركز الكاثوليكي للإعلام والتحريض. وكان طريفاً أن الراعي بادر في ردة فعله إلى مناشدة الأمن العام التدخّل، والتدخّل السريع. الوطن كان على شفير الهاوية لو لم يوقف البرنامج. أي إن الكنيسة هنا تطالب بالتحريم الديني والسياسي على حدّ سواء. يمكن التحريم الديني أن يتزاوج مع التحريم السياسي إذا وصل رجال الدين إلى السلطة أو إذا توافقت السلطات السياسيّة والسلطات الدينيّة كما يحدث في مسخ وطن الأرز. أي إن السلطات الدينيّة هي ضامنة أبديّة لممارسة القمع إما لحفظ مكتسبات السلطات الطائفيّة وإمّا لتطبيق معايير زجر وقمع (وخصوصاً ضد المرأة) باسم الفضيلة ـــــ وهي، مثل الشرف، لا تسلم إذا أريق على جوانبها الدمُ القاني.
البرنامج التلفزيوني عن المسيح هو من إنتاج إيراني وهذا يسهّل له منعه في لبنان نظراً للصراعات على أرض الأبرياء. أي إن فريق 14 آذار يستسهل اتهام «من وراء البرنامج» بالضلوع في مخطّط إيراني رهيب (والبطريركيّة، كما علمنا عشيّة الانتخابات، لا تخشى على لبنان إلا من سوريا وإيران، لا من إسرائيل، لكن لا علاقة لذلك أبداً بالاتفاقيّة السريّة المُوقعة عام 1946 بين البطريركيّة والحركة الصهيونيّة). والسيّد عبده أبو كسم من المركز الكاثوليكي للإعلام أضاف كلاماً أراده وفاقيّاً بأنه لم يكن هناك اعتراض على البرنامج لو أنه اعتمد القرآن بدلاً من «إنجيل برنابا» أساساً للرواية المسرودة، ناسياً إن الإنجيل المذكور، «برنابا»، (وهو على الأرجح موضوع ـــــ منحول ـــــ من قبل رجل إيطالي أسلم) جاء ليكرّس النظرة القرآنيّة للمسيح. أي إن السرديّة الإيرانيّة الإنتاج تتوافق مع السرديّة القرآنيّة، وإن غاب ذلك عن ذهن أبو كسم الساعي للتوافق الطوائفي والمذهبي. وأضاف المطران الراعي (يعاونه في ذلك طارق متري، وزير إعلام قريطم) كلاماً عن ضرورة القمع والتحريم من أجل الوفاق والتواؤم في بلد التعدّد. أي إن التعدّد وضروراته لا يستقيمان من دون قمع وتحريم.
لكن الردود في الطرف الآخر لم تكن مُقنعة البتّة. لم يكن مُقنعاً القول إن الفيلم عُرض في مهرجان هنا أو هناك، أو أن المخرج معروف، أو أن السينما الإيرانيّة متطوّرة، وهي كذلك. ولم يكن مُقنعاً حتى الاعتراض في جريدة «الأخبار» في الصفحة الأولى. الاعتراض على المنع وعلى التصرّف القروسطي من قبل المركز الكاثوليكي للإعلام الذي هدّد بجلب العامّة (يصطحبهم نديم الجميّل الذي التقى هو وشقيقته يمنى مع حفيدة ابنة إسحاق رابين في أوروبا قبل سنوات ربّما للتدليل على الحضاريّة) يبقى ناقصاً ما لم يقترن بذم المنع الإسلامي المُقابل. لكن تدخل الكنيسة في التأجيج شكّل خطراً على السلم الأهلي: إذ إن الكنيسة لا تُمانع في التحريض الشعبي إذا رأت مصلحة في ذلك.
لكن الطرف الإسلامي موقفه هش جدّاً من موضوع حريّة التعبير. ورجال الدين في الطرفيْن لا يتحمّلان النقد أو الهجاء، حتى أن الكلام عن رجل دين يتناقل الناس خبر فساده وفساد ابنه ممنوع لأن التعرّض لـ«المقامات» الدينيّة حرام في بلد الحرام. ولكن لا تجوز المقارنة بين ردود الفعل على التهكّم الذي لحق بشخص حسن نصر الله في برنامج كوميدي سمج على محطة «إل.بي.سي» (جمهور 8 آذار اكتشف ظرف السمج والعنصري، شربل خليل، بمجرّد أن أعلن تأييده لميشال عون) وبين ما حصل أخيراً. في تلك اللحظة عندما جال شباب غاضب في شوارع بيروت محتجّين على السخرية من نصر الله، لم تكن المؤسّسة الدينيّة ولا حزب الله مسؤولين عن ردّة الفعل الشعبيّة القويّة ضد البرنامج. على العكس، فقد لعب الحزب دوراً في تهدئة الخواطر كي لا تخرج الأمور من السيطرة، فيما قادت الكنيسة حملة التحريض ضد المسلسل عن المسيح أخيراً، أي إنها لعبت بالنار بملء الإرادة. لكن السلطات الدينيّة (السنيّة والشيعيّة ـــــ قبل أن أُتهم بالانحياز المذهبي) غير متسامحة البتّة في موضوع حريّة التعبير في ما يتعلّق بالإسلام خارج نطاق المُسوّغ والمقبول من قبل السلطات الدينيّة ـــــ أي خارج نطاق الدعاية الدينيّة. حتى الدراسات الإسلاميّة، فقد تراجعت وذبلت لأن الدولة والجامعات والمؤسّسة الدينيّة لا تسمح بالدراسات الجادّة في ما يتعلّق بالتاريخ الإسلامي أو بالنصوص الدينيّة. وعليه، فلم تتطوّر الدراسات الإسلاميّة على امتداد قرن من الزمن لأنه ممنوع الخروج عن نطاق العقيدة حتى في باب الدرس الأكاديمي، كما أن المال السعودي يفرض ضوابط وحدوداً ومحاذير على كل الدراسات الإسلاميّة (السنيّة وبعض الشيعيّة). وقد كان كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل محاولة جادّة لكتابة السيرة النبويّة بطريقة تصل إلى العامّة. أكثر ما يُنشر في الدراسات الإسلاميّة هذه الأيام يدخل في نطاق نشر (غير دقيق) للمخطوطات وإعادة الترويج للعقيدة على طريقة السلف وبلا كيف.
هذا لا يعني أن الحساسيّة الإسلاميّة ضد التعرّض والتعصّب والكراهيّة المسيحيّة للإسلام غير مفهومة تاريخيّاً. قد يكون نبيّ الإسلام أكثر رجل في التاريخ تعرّض للإهانة والافتراء من قبل كتّاب داخل الكنيسة في الغرب أو خارجها. حتى المفكّرون الأحرار، مثل فولتير في مسرحيّته، تعرّضوا له. لم تنته الكراهيّة للإسلام في الغرب بعدما تعرّضت المجتمعات والدول في الغرب (باستثناء أميركا) إلى نموّ علماني. على العكس، سرعان ما تناغمت العلمانيّة الغربيّة مع الإسلام: أي إن الإسلام خطر على الغرب من منظار العقيدة المسيحيّة ومن منظار العلمانيّة وإن اختلفت معايير الحكم الصارم على الإسلام عبر القرون كما دلّل هشام جعيط الفذّ في كتابه «أوروبا والإسلام». إذ إن الليبراليّة الغربيّة سرعان ما اعتنقت كراهيّة الإسلام من منظار «الإنسانيّة العلمانيّة» ومن منظار نسويّة استعماريّة تستعمل حقوق المرأة لا للدفع بحقوقها بل لتحقير الدين الإسلامي وتسويغ الاستعمار وحروبه. حتى التاريخ الاستشراقي لم يكن منزهاً كما هو معروف، لا بل إنه زاد في معين الزاد الغربي للعداء للإسلام الذي امتدّ عبر القرون منذ ما قبل الحروب الصليبيّة. والعداء الغربي للإسلام لم يبدأ بعد 11 أيلول ولم يبدأ مع ظاهرة الإسلام السياسي أو العنف ذي الوجه (أو الزعم) الإسلامي. لقد بدأ قبل ذلك بكثير. والكلام عن وصم الإسلام بالإرهاب بسبب أفعال المسلمين (وهي لازمة باتت تتكرّر في الإعلام السعودي الليكودي مثل «الشرق الأوسط» ـــــ الناطقة باسم الأمير سلمان وأولاده ـــــ أو «الوطن» ـــــ الناطقة باسم خالد الفيصل المُتحالف مع الجناح السديري في العائلة المالكة). الدول الإسلاميّة، (والمسلمون بصورة عامّة)، كانت أقل الدول في العالم عنفاً مقارنة بالدول الأوروبيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين.
النفاق الغربي يصل إلى المُفاضلة بين الأديان. فالدول الغربيّة شديدة الحرص على مشاعر اليهود وهي تجرّم (في بعض الدول على الأقلّ) إهانتهم أو إبداء عدم الحساسيّة نحوهم. هذا الموقف يتناقض ليس فقط مع حريّة التعبير (أي حريّة الإهانة والذمّ بين الناس) بل يتناقض مع الإصرار الغربي (الحكومي أحياناً كما يحدث مع سنّ قوانين ضد النقاب أو ضد المآذن أو ضد الوافدين من دول ذات غالبيّة إسلاميّة) على إبراز كراهية الإسلام والمسلمين. والاستفزاز الغربي (المسيحي واليهودي والعلماني ـــــ الليبرالي) نحو الإسلام يُقابل من جهة المسلمين ومؤسّسات الإسلام بالتصلّب والانغلاق والإصرار على جعل الدعاية الدينيّة منهجاً «أكاديميّاً» مقبولاً بغية التصدّي للدعاية المُضادة. أي إن الإسلام في موقف ضعيف: موقف الدفاع عن النفس، وهذا الموقف ضار ليس فقط بالإنتاج الأكاديمي بل بالمعنويّات الشعبيّة. وعليه، تصبح رسوم كارتونيّة (قصد منها راسمُها استفزار المسلمين (والمسلمات) وإهانتهم ليس إلا) سبباً للخوف على حال الأمّة مع أن التزايد السكاني بين المسلمين (والمسلمات) يبشّر بمستقبل واعد لهم ولهن، وخصوصاً مع الانتشار العالمي للإسلام. لعلّ هذا ما قصده المستشرق البريطاني، مونتغمري وات (والمعروف بتعاطفه مع الإسلام رغم أنه في آخر أيّامه، وخصوصاً في كتابه «الأصوليّة الإسلاميّة والحداثة»، عبّر عن ضيق شديد بالإسلام) في كتابه «الروعة التي كانت إسلاماً» حين تحدّث عن رحابة صدر المسلمين في زمن الازدهار الحضاري الإسلامي، عندما كانت المناظرات بين المسلمين وغير المسلمين وحتى الملاحدة تجري من دون وجل في المدن الإسلاميّة. لقد ضاق صدر المسلمين هذه الأيّام. المؤرّخ كمال الصليبي اعترف (في «المستقبل العربي»، عدد آب الأخير) بأنه لم يتطرّق إلى دراسة الإسلام بسبب الخوف. هذا يُفسّر كيف أذعنت محطة «المنار» و«إن.بي.إن» من دون كثير اعتراض.
أمّا في لبنان، فالأمر يجري على صعيد الطمأنة الطائفيّة. ليس هناك طرف ديني أو إسلامي بعيد عن أجواء التحريم والمنع والزجر. ومن الطبيعي التساؤل عن موقف السلطات الإسلاميّة الدينيّة (سنيّة كانت أم شيعيّة) من محطة لبنانيّة ارتأت أن تعرض مسلسلاً تلفزيونيّاَ عن سيرة محمد. يمكن توقّع الاحتجاج قبل ظهور البرنامج. لكن الطوائف والأديان تسمح لنفسها بالاعتراض على عمل فنيّ أو إنتاج أدبي من دون القراءة، والمنظمات اليهوديّة تسمح لنفسها بالاعتراض على كتب ومطبوعات مهينة لليهود من دون الاطلاع عليها، لكن الحريّات الغربيّة تطالب دائماً المسلمين بممارسة النقد الفنيّ والأدبي قبل الاعتراض على إنتاج مُهين للمسلمين. إذا كان يحق لليهود الاعتراض على كتاب «كفاحي» لهتلر (لماذا أراه بوفرة في مكتبات بيروت، بالمناسبة؟) من دون قراءته فمن حق المسلمين الاعتراض على كتاب «آيات شيطانيّة» لسلمان رشدي ومن دون أن يقرأوه هم أيضاً.
موقف الاعتراض الإسلامي ضعيف للغاية لأن الدول والمجتمعات الإسلاميّة تعاني ضيق صدر وأفق في ما يتعلّق بالحديث عن الإسلام من قبل مسلمين وغير مسلمين. الكلام المُنافي للسرديّة الرسميّة ممنوع ومنبوذ، وصاحبه مهدور الدم عند البعض. إن رحابة صدر المجتمعات الإسلاميّة (حتى لا نتحدّث عن حكومات قمعيّة تتحدّث باسم المسلمين، كما أن السنيورة والحريري تحوّلا بقدرة قادر إلى ناطقيْن باسم «أهل السنّة»، وخصوصاً أن السنيورة واظب على الصلاة أمام عدسات الكاميرا بعدما تعرّض للانتقاد بسب موقفه المتخاذل أثناء عدوان تمّوز) يمكن أن تفيد في حيويّة الإنتاج الأكاديمي الإسلامي وتبعد شبهة الخوف عن كل من يتعرّض للإسلام بالدراسة. تحتاج الدراسات الإسلاميّة العربيّة إلى حقنة من التنشيط ورفع السيف المصلت على رؤوس الدارسين والدارسات.
تحتاج الدراسات الإسلاميّة العربيّة إلى رفع السيف المصلت على رؤوس الدارسين
الحريّة المنشودة تتطلّب انفتاحاً متبادلاً قائماً على احترام العقائد لكن من دون تمييز ـــــ لا بين الأديان والمذاهب ولا حتى بين مضمون العقائد. كما أن واقع لبنان يتنافى تماماً مع إمكان الوصول إلى مرحلة حريّة التعبير، وخصوصاً أن الشلّة الليبراليّة الغربيّة التي لعبت دوراً في تشكيل ما سمّاه هابرماس «الحيّز العام» لا علاقة لها البتّة بالحملة على الحريّات. ليست فقط مرتهنة لأشدّ الأنظمة فتكاً بالحريّات بل هي تزايد في المطالبة بالقمع والتنكيل لأنها تعوّض عن غياب شعبيّتها بمناصرة قمع أعدائها. لهذا، فإن مطالبة طارق متري بفرض رقابة عليا (إضافيّة) على الإعلام ومطالبته هذا الأسبوع بفرض رقابة إضافيّة على الكتابة الإلكترونيّة لأن استخبارات الجيش مشغولة برصد صفحات «الفايسبوك» للتأكد من خلوّها من تهكّم على شخص رئيس الجمهوريّة، تنسجم مع مطالب قريطم العليا. ما يحصل وما سيحصل في لبنان في هذا الصدد هو نموذج مقزّز آخر من ستة وستة مكرّر: فمنع البرنامج التلفزيوني عن حياة المسيح سيُقابل بمنع مُضاد لبرنامج آخر يُحسب في خانة طائفة أخرى، وهكذا دواليك.
ولكن ماذا لو أن البرنامج استمرّ في العرض، وماذا لو أن السرديّة أزعجت بشارة الراعي وعبده أبو كسم؟ هل كانت الدولة المترنّحة ستزداد ترنّحاً؟ هل كان المركز الكاثوليكي للإعلام على حقّ عندما حذّر من الفتن وكاد أن يتوقّع عودة الحرب الأهليّة (هذا لو أنها صحيح انتهت، ولكن حتى لو عادت نستطيع أن ننشد بصوت واحد: «راجع راجع يتعمّر، راجع لبنان...»)؟ وهل كان على محطتَي «المنار» و«إن.بي.إن» استشارة مراجع مسيحيّة قبل العرض؟ الجواب هو بالإيجاب لأنه من غير المعقول أن تعرض محطة ذات وجهة مسيحيّة في لبنان برنامجاً يتناول شخصيّة إسلاميّة من دون استشارة مراجع إسلاميّة. أي إن لبنان محكوم بالتكاذب المشترك وبالكراهيّات المُتبادلة المُغلّفة باصطناع الاحترام المُتبادل.
لا حاجة للبرنامج أبداً، والتواصل بين الطوائف وإبداء الآراء الدينيّة في أديان البعض الآخر ممنوع في لبنان لأن الشعب يعيش دوماً على فوهة بركان، ولعبة الكلّة بين أطفال أدت إلى حرب أهليّة في القرن التاسع عشر مع أن الشعب كان يحبّ بعضه بعضاً، على ما درسنا عنه، وهو مثابر على إعادة تعمير البلد أفضل مما كان، كما علّمتنا أغنية زكي ناصيف السوداويّة. الخوف المتبادل يشوبه كره وحذر مُتبادلان، وأفضل الطرق ـــــ بالنسبة لأدعياء الطائفيّة ـــــ هي معادلة البطريرك صفير: فلينتخب المسلمون النواب المسلمين ولينتخب المسيحيّون النواب المسيحيّين. وليكن للمسيحيّين طرقهم ومطاعمهم وحاراتهم الخاصّة وبرامجهم التلفزيونيّة، وليكن للمسلمين طرقهم ومطاعمهم وحاراتهم وبرامجهم التلفزيونيّة أيضاً. وحذار أن يتناول أبناء طائفة بالكلام أبناء طائفة أخرى. البلد لا يتحمّل. وينطبق هذا الكلام على مذاهب الدين الواحد: فاليوم لا يستطيع سنّي أن يكتب عن الفتنة الكبرى في الإسلام، ولا يستطيع شيعي ذلك أيضاً. كل هذا مؤجّل بانتظار القرار الاتهامي. وفي هذه الأثناء يستطيع أبناء بلدة في لبنان إعداد صحن بطاطا عملاق. يلّلا. سجلّ آخر من المجد يمكن أن يُضاف إلى بلد ملؤه السؤدد والطحينة.
ملاحظة ـــــ صدر للكاتب الجزء الأوّل من كتاب «البوح الغاضب» وهو مجموعة مقالات مُنتقاة مما نُشر له في «الأخبار».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)
تعليقات: