الفستق الحلبي.. رمز للثمار الملكية الفاخرة
زرعه نبوخذ نصر في الجنائن المعلقة .. ويعتبر من المكسرات المرغوبة في الشرق والغرب
لندن:
يعتبر تاريخ الفستق الحلبي من أكثر تواريخ النباتات والثمار الطيبة والخيرات الطبيعية بشكل عام، تاريخ طويل وحافل ومميز في العالم بعد انتشاره من منطقة الشرق الأوسط التي يحبها ويحب مناخها. وشجرته من أقدم أشجار المكسرات المزهرة. إذ تشير بعض الحفريات إلى استخدام الناس له منذ القرن السابع قبل الميلاد في تركيا. ولطالما اعتبر من ثمار الملوك والعامة على حد سواء وحمله الرحالة في أسفارهم ونقلوه وتاجروا به على أنه بضاعة فاخرة. ويقال إن ملكة سبأ (شيبا) منعت الناس العاديين من زراعة الفستق الحلبي واستغلاله واستهلاكه واعتبرته حكرا على الطبقة المالكة وحدها. وكانت تسيطر وحدها على واردات الفستق الحلبي من الآشوريين لحبها له. كما جعل ملك بابل القديمة نبوخذ نصر من أشجار الفستق جزءا لا يتجزأ من الجنائن المعلقة التي كانت تعتبر من عجائب العالم القديم. وقد أحبه الرومان وأغرموا به منذ زمن طويل أيضا، وجلب شجرة الفستق إلى روما الإامبراطور فايتيليوس في القرن الأول. وهناك اعتقاد أيضا أن الفستق الحلبي، كان أحد الثمار التي جلبها معه سيدنا آدم عليه السلام إلى الأرض. وكما سبق أن ذكرنا، كان الفستق حلبي واللوز جزءا لا يتجزأ من حياة الرحالة والتجار الذين كانوا يعملون وينشطون على طول خط الحرير القديم الذي كان يوصل الصين بالشرق الأوسط والعالم، بسبب أسعاره الممتازة والقدرة على تخزينه واستخدامه لوقت طويل مع قيمته الغذائية العالية جدا. وكان آنذاك يستخدم أيضا لعلاج وجع الأضراس أو الأسنان والكبد. ومع هذا، فإن أصول الفستق الحلبي لا تزال مثار جدل، وتتراوح بين تركيا وإيران وسورية. وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار إن هناك بلدان كثيرة تعتبر موطنا لشجرة الفستق الحلبي وهي باكستان وإيران وتركيا وتركمنستان وقيرغيستان واليونان وأفغانستان وسورية. لكن الشجرة الحديثة التي نستغلها تعود على الأرجح إلى غرب آسيا، حيث كانت من قديم الزمان من المحاصيل المهمة في المناطق الإيرانية الباردة قليلا. وقد جاء ذكر الفستق الحلبي في كتب المؤرخ اليوناني والعالم الذي ولد في قليقيا في سورية دياسقوريدويس العظيم الذي كتب عدة كتب مهمة عن النباتات والحشائش. وجاء اسمه باليونانية آنذاك «بيستاكيا» وتلفظ أحيانا «فستاقيا». لكن انتشار الفستق كما يبدو تم من سورية في اتجاه العالم الحديث على ما يبدو. ويقول المؤرخ الروماني المعروف بليني في كاتبه «التاريخ الطبيعي»، إن شجرة البطم «بيستاشيا» (pistacia) كانت معروفة جدا في أوساط الرومان وإن شجره كان من الأشجار الفريدة التي تتغنى بها سورية، وقد قام القنصل الروماني في دمشق لوسيوس في عهد الإمبراطور تابيريوس، بنقل شجرة الفستق الحلبي إلى إيطاليا لأول مرة. كما قام بنقلها إلى شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) فلاكوس بومبييوس. كما جاء ذكر الفستق في مدونات البيزنطي أنثيموس، حيث كان كما يبدو شائعا في أوروبا في أواخر القرون القديمة، أي بين القرن الثاني والثامن.
وتكملة لهذا الكلام، تقول الموسوعة الحرة العربية، إن الفستق الحلبي عرف بسبب مدينة حلب التي تشتهر بزراعته منذ قديم الزمان وإن تاريخ زراعته في غرب آسيا وبلاد الشام يعود 3500 سنة قبل الميلاد. كما أن موطن شجرة الفستق الحلبي التي تنتمي إلى الفصيلة البطمية هو منطقة عين التينة في سورية. وتضيف الموسوعة أن بلدة مورك التي تقع جنوب معرة النعمان (شمال مدينة حماة) هي مركز زراعة الفستق الحلبي في سورية، إذ تعتبر البلدة الوحيدة في العالم التي تختص وتركز فقط على زراعة هذه الشجرة المعطاءة. فمساحة الأرض المخصصة لزراعة الفستق تتعدى الـ68 ألف دونم، أي ما يساوي 800 ألف شجرة. بأي حال، هناك بعض المصادر التي تشير إلى أن تاريخ الفستق الحلبي يعود إلى 6760 سنة قبل الميلاد أي إلى الحقبة الباليوزية أو ما يعرف بحقبة الحياة القديمة التي ظهرت منذ 543 - 280 مليون سنة، وتضم ستة عصور مهمة. وبالتحديد في بعض مناطق الاستطيان البشري في العصر الحجري الحديث. وهناك من يجادل كما سبق أن ذكرنا أن أصول الفستق من الهند وباكستان والمناطق القريبة من الصحاري. ويقال إن الاسم الإنجليزي (pistachio) اسم استعارته اللغة اللاتينية قديما من الاسم الإيران «بسته» (Peste). ويطلق عليه أهل المغرب اسم «بيستاش».
ودخلت شجرة الفستق الحلبي الولايات المتحدة التي تعتبر من الدول المهمة في إنتاجه حاليا، إلى ولاية كاليفورنيا في عام 1854 كشجرة للحدائق والزينة لوفرتها وغزارتها وحجمها المتوسط والجميل. وأدخل ديفيد فيرتشايلد من وزارة الزراعة نوعا من الصين إلى الولاية لم يستغل على نطاق واسع إلا بدايات القرن العشرين.
وهناك من يقول أيضا إن المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص لبنان وسورية وتركيا وفلسطين جلبوا معهم الشجرة إلى ولاية كاليفورنيا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت تباع في أكياس صغيرة مطلية بلون أحمر في الماكينات لجذب الزبائن وتغطية شكل حبة الفستق. وفي عام 1930 بدأت الولايات تشهد زراعة الفستق الحلبي على نطاق واسع ومن نوع «كيرمان» الذي يحمل اسم مدينة كيرمان في وسط إيران وقرب صحراء لوط. وبعد الستينات بدأت الولاية بإنتاج الفستق على نطاق واسع وأصبح أكبر منتج له في العالم في بعض الفترات وفي الولايات المتحدة نفسها، حيث تشكل 98 في المائة من الإنتاج الأميركي المحلي. وتشبر المعلومات المتوافرة، إلى أن ولاية كاليفورنيا والوادي الكبير فيها تستغل ما لا يقل عن 100 ألف هكتار من الأراضي لاستغلال وزراعة الفستق الحلبي الممتاز، أي ما يساوي 120 مليون كيلو تقريبا. وارتفع الإنتاج لاحقا بالطبع ووصل إلى أكثر من 150 مليون كيلو، ما قيمته نحو نصف مليار دولار في الأسواق، حسب إحصاءات عام 2005. ولا تزال أنواع الفستق الحلبي السوري تنتشر في منطقة نايلز القريبة من فريمونت في ولاية كاليفورنيا منذ بدايات القرن العشرين.
بأية حال، فإن الفستق الحلبي من الثمار والمكسرات المحبوبة والمرغوبة في الشرق والغرب على حد سواء ويتم حاليا بيعه في كل دكان محمصا ومملحا ومقشرا. ولطالما دأب الناس في سورية ولبنان وتركيا وإيران على استخدامه لتزيين وصناعة أافحر أنواع الحلويات الشرقية مثل البقلاوة وعش السرايا والقشطلية والأرز بالحليب والمهلبية وغيره من الكثير من أنواع الحلوى المحلية. كما يعتبر جزءا لا يتجزأ من المكسرات اللبنانية الفاخرة وما يعرف بالمخلوطة ومنه أنواع كثيرة كبيرة ونحيفة. وعادة ما يباع أيضا وبأسعار غالية أخضر ذا قشرة جلدية ناعمة ذات لون زهري جميل ورائحة عطرة وطيبة وخفيفة لا تقارن بأي من غيرها من الثمار. كما يستخدم كثيرا في طبخ الأرز لإعطاء الأرز قيمة أكبر وأحيانا إلى جانب الصنوبر. ويلجأ البعض إلى خلطه في الطبيخ وأحيانا في شتى أنواع السلطات. وفي النهاية، يستخدم لطيبة طعمه وكدلالة على الفخامة والفخر ولأنه أيضا مفيد جدا للقلب، إذ تقول الأبحاث الأخيرة إن تناوله يوميا وبانتظام قد يقي القلب من السكتة القلبية عند بعض الناس. وعلى الرغم من أنه يحتوي على الكثير من السعرات الحرارية، فإن دهونه معظمها غير مشبعة ولا يؤدي تناولها باعتدال إلى زيادة الوزن الذي لا بد من تخفيضه عند البعض أو بكلام آخر تخفيض نسبة الكولسترول في الدم ومحاربة الأكسدة في الجسم بشكل عام بسبب وجود فيتامين «إي». كما يقال إنه مفيد في منع حصول بعض السرطانات وخصوصا سرطان الأمعاء. بأية حال، فإن الكثير من الشعوب عشقت الفستق الحلبي وأغرمت به، فهو جزء لا يتجزأ من الحياة في اليونان وإيطاليا ويستخدم كثيرا في آسيا مع تحضير الأطباق الهندية والصينية والتايلاندية والفيتنامية. واليابانية، ولا يزال حتى الآن من السلع غالية الثمن رغم انتشاره الكبير، نسبة إلى غيره من أنواع الثمار. وكان الأطفال وفي الكثير من المناطق يصنعونه مع القطر على شكل رقائق بعد تحميصه كأحد أنواع السكر والحلوى الخاصة بصغار السن.
يزرع الفستق هذه الأيام أيضا في العالم الأنغلوساكسوني من الولايات المتحدة إلى أستراليا ونيوزيلندا ونيو مكسيكو. وتقول الإحصاءات المتوافرة عن عام 2005 إن إيران على رأس الدول المنتجة للفستق في العالم بنحو 200 ألف طن متري، يليها الولايات المتحدة بـ 401 ألف طن متري، ثم تركيا (60 ألف طن متري)، وسورية (60 ألف طن متري)، والصين (34 ألف طن متري)، واليونان (9500 طن متري)، وإيطاليا (2400 طن متري)، وأوزبكستان (1000 طن متري)، وتونس (800 طن متري)، وباكستان (300 طن متري)، ومدغشقر (160 طنا متريا)، والمغرب (50 طنا متريا)، وقبرص (15 طنا)، والمكسيك (7 أطنان مترية)، وموريشيس (5 أطنان مترية).
تعليقات: