معـــهد واشنـــطن وضـــع أهـــداف الحـــرب بعـــد شـــهر مـــن اغتـــيال الحـــريري
مع حلول الرابع عشر من آب 2006، الموعد المعلن لوقف إطلاق النار، بدا أن اللبنانيين أبعد ما يكونون عن إدراك مغزى النصر، في وقت كانت فيه مؤسسات صناعة فكر المحافظين الجدد في واشنطن وأشد نظيراتها الأوروبية يمينيةً تخرج بخلاصات حاسمة لجهة تأكيد تقدم حلف «المغامرين»، بقيادة محور مشعل ـــــ نصر الله ـــــ الأسد ـــــ نجاد ـــــ تشافيز، على حلف «العقلاء»، بقيادة أولمرت ـــــ المعتدلين العرب ـــــ شيراك ـــــ بلير ــــ بوش.
المفاصل الرئيسية التي عالجتها مؤسسات الفكر الغربية تنوعت من حيث المواضيع، فشملت مستقبل لبنان، الدور السوري، الردع الإسرائيلي، العلاقات الاسرائيلية ـــــ الأميركية، الصعود الإيراني، اهتزاز الأنظمة العربية، المستنقع العراقي والمأزق الأميركي، فضلاً عن تأثر مواقع أطراف دولية أخرى كروسيا وأوروبا بتداعيات الحرب.
وقبل الخوض في ما كتبته مراكز الدراسات الغربية عن الحرب، لا بد من الإشارة الى الدراسات التي «توقّعت» تاريخ الثاني عشر من تموز وما سيليه من أحداث.
أحد أبرز هذه «التوقّعات» هو ذلك الصادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في 8 آذار 2005، أي بعد أقل من شهر على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، تحت عنوان «منع إيران وحزب الله من ملء الفراغ في لبنان».
والمفارقة أن واضع الدراسة هو العميد الإسرائيلي مايكل هرتزوغ، والمؤسسة البحثية التي تبنّتها تكاد تكون أهم ذراع تأثير إسرائيلية في الإدارة الأميركية.
توصيات العميد الإسرائيلي آنذاك تلخصت في ما يأتي:
ـــــ إن تظاهرات الثامن من آذار الضخمة في بيروت، التي نظمها حزب الله، تعني أن نشر الديموقراطية والحرية في لبنان يحتاج الى أكثر من الانسحاب السوري.
ـــــ اذا سُمح لإيران وحزب الله بملء الفراغ الذي أحدثه السوريون، فسيظل لبنان موضع تدخل أجنبي. تطور كهذا سيزيد احتمال تصعيد على الحدود اللبنانية ـــــ الإسرائيلية مع تورط إقليمي.
ـــــ بالتزامن مع تشجيع الأحداث التاريخية حالياً في لبنان والدفع باتجاه انهاء الاحتلال السوري، على المجتمع الدولي عدم تجاهل أمرين رئيسيين: وضع حد لإيران ونزع سلاح حزب الله.
ـــــ يجب التدقيق جيداً في اقتراحات ملء الفراغ الأمني في لبنان بواسطة قوات حفظ سلام دولية حتى لا تتكرر إخفاقات الماضي.
ـــــ نزع سلاح حزب الله قد يتطلب وجود عنصر سلام (لبناني، إقليمي أو دولي).
ولم تكن توصيات هرتزوغ وحدها تشير الى ضرورة تغيير المعادلة القائمة في لبنان وجنوبه، قبل أشهر من حرب تموز، لكن لعلها كانت الأبرز ضمن جملة تقارير وأبحاث ومعلومات تواترت أصداؤها في وسائل الإعلام العالمية عشية الحرب وإبّانها وبعدها كاشفةً عن لقاءات ومخططات سرية كان يجري إعدادها في واشنطن وتل أبيب، وبدراية عربية وافية.
غير أن معظم هذه التقارير كانت تفقد جزءاً من صدقيتها في الغرب نتيجة صدورها بعد وقوع الحرب، بما يدمغها بنظرية المؤامرة التي اعتاد العرب رفع لوائها عند كل مفصل تاريخي.
وهكذا لم تقف وسائل الإعلام الغربية طويلاً عند تحقيق الصحافي الأميركي الشهير سايمور هيرش في مجلة «نيويوركر»، الذي كشف فيه تورط الإدارة الأميركية في الحرب من خلال زيارات مكوكية قام بها مسؤولون إسرائيليون الى واشنطن بغية استشارة ديك تشيني وصقور الفريق الحاكم.
وضمن مسار مواز، نشرت صحيفة «فرانسيسكو كرونيكل»، بعد أيام قليلة من اندلاع المعارك في جنوب لبنان، تقريراً أوردت فيه أن «رد الفعل العسكري الإسرائيلي جواً وبراً وبحراً يظهر تدريجاً وفق خطة وضعت قبل أكثر من عام».
وفي الأسبوع الأخير للحرب، أكدت مجلة «نيو ستيتسمان» البريطانية أن «الحكومة البريطانية أيضاً كانت على علم بخطط إسرائيل».
لبنان بعد الحرب
ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى شرع المحلّلون في مناقشة احتمالات المواجهة التالية وموعدها، انطلاقاً من أن عدم تحقيق الجيش الإسرائيلي لأهدافه في الجولة الأولى يستدعي محاولة أخرى.
قاعدة يبني عليها الخبير الأمني والعسكري في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية انطوني كوردسمان تقريره الصادر في 23 حزيران 2007 تحت عنوان «هل من حرب على لبنان هذا الصيف؟» الذي استهله بعرض الواقع اللبناني بالإشارة إلى أن لبنان «متورط في أربعة نزاعات دفينة:
ـــــ جهود سورية لاستعادة النفوذ، إن لم يكن السيطرة.
ـــــ إعادة بناء حزب الله لقوته العسكرية كوسيلة للحصول على القوة في لبنان وكتهديد مدعوم إيرانياً وسورياً ضد إسرائيل.
ـــــ نزاعات طائفية على السلطة.
ـــــ نزاع ضد ظهور حركات متطرفة إسلامية سنية ذات علاقة مع القاعدة.
ومع تأكيد كوردسمان أنه «ليس حتمياً تحوّل أي من هذه النزاعات الى حرب»، فإنه يحذر من أن «بإمكانها مجتمعةً أن تصبح كذلك؛ لأنها لا تتفاعل فقط مع التطورات الداخلية في لبنان، بل مع تطورات العلاقات الاسرائيلية ـــــ السورية، والتوترات الاقليمية مع إيران، والنزاعات الفلسطينية، والصراعات التي تشمل حركات تطرف إسلامية سنية مثل القاعدة»، ليستنتج ضمناً أن القادر على «استغلال هذه التطورات» هو من يتحكم في مصير البلد.
بالنسبة إلى أطراف الحرب المقبلة، ينقل كوردسمان عن مصادر عسكرية إسرائيلية أن «حزب الله طوّر قدرات دفاعية جديدة في العمق وأن في وسعه غزو الحدود رغم وجود القوات الدولية».
في المقابل، «تملك سوريا قوى بديلة يمكن استخدامها»، ذلك أن «الطائفة، العرق، والإيديولوجيا، لا تمنع فئات معادية مفترضة من دعم بعضها بعضاً ضد من ترى أنهم أعداؤها الكبار».
وهكذا يرى كوردسمان أن الاحتمالات مفتوحة، انطلاقاً من أن الشعار الشرق الأوسطي الذي يفيد أن «عدوّ عدوي هو صديقي» قد أعيدت صياغته يصير «عدوي هو صديقي ضد عدوي الآخر حتى يعود، مرةً أخرى عدوي».
وبالعودة إلى اللحظات الأولى للعدوان الاسرائيلي في تموز 2006، تجمع مراكز الدراسات على أنه لم يكن دقيقاً الحديث عن حالة حرب بين إسرائيل ولبنان، بل الأصح هو أن فئة من اللبنانيين أخذت على عاتقها المواجهة، من دون أن يعني هذا الانقسام القديم المتجدّد في المجتمع اللبناني المزيد من الهشاشة بالضرورة، ذلك أن التركيبة الطائفية للبلد تضعه أمام استحقاقات لا يستوعبها «كيانه التعددي»، وهكذا تجد بيروت نفسها دوماً عرضة لصراعات إقليمية لا تختار هي الدخول في أتونها.
من هذا المنطلق، ركزت مراكز الأبحاث الأجنبية على موقع حزب الله «الذي أصبح أقوى بكثير، كما هي حال حلفائه، إذ تعزّز موقع الزعيم المسيحي ميشال عون. أمّا القيادة السنية بزعامة سعد الحريري فهي أمام خيارين اثنين: إمّا تأليف حكومة وحدة وطنية وإما الذهاب الى انتخابات مبكرة» كما يرى منتدى النزاعات البريطاني.
بعد فشل إسرائيل في تدميره، يعتمد السيناريو البديل المطروح لنزع سلاح حزب الله على الميدان السياسي الداخلي في لبنان، وبالتحديد إقناع الطائفة الشيعية بعدم جدوى السلاح، أو الرهان على سلوك طائفة خيار الحرب الأهلية مرة أخرى، لكن المجتمع اللبناني بتركيبته الطائفية أضعف من أن ينقسم على نفسه. وليس خافياً على أحد أن زعماء الطوائف، وبرغم اختلافهم على أمور كثيرة، متفقون على عدم العودة الى الاقتتال الداخلي. هذا على الأقل هو استنتاج مجموعة إدارة الأزمات الدولية التي استبعدت نشوب حرب أهلية في لبنان لأسباب أربعة هي «الذكرى الأليمة للحرب الأهلية، حقيقة أن جهة واحدة تملك السلاح، حياد الجيش، وإدراك جميع الزعماء اللبنانيين أنهم يخسرون أكثر مما يربحون بسلوك طريق العنف».
ورغم دمغ الأزمة السياسية الحالية في البلاد بالتوتر المذهبي السني ـــــ الشيعي، فإن تقرير المجموعة، الذي صدر مطلع العام الحالي تحت عنوان «لبنان على حافة الانفجار»، يحمّل جهات «أجنبية» المسؤولية عن واقع الأمور، «ذلك أن لبنان حيوي على الصعيد الاستراتيجي بالنسبة إلى إدارة (الرئيس الأميركي جورج) بوش، وبالنسبة إلى أمن إسرائيل والطموح الإيراني ومصالح سوريا».
وتخوض المجموعة في الأزمة الحالية، فترى أن قوى المعارضة تعتمد على «دعم سوريا السياسي والعسكري، لكن الغالبية النيابية تعتمد على تمويل الدول الغربية ودعمها سياسياً ودبلوماسياً»، الى درجة أن من الصعب على قوى 14 آذار «وضع برنامج محلي خاص بها من دون الغرب».
أمّا أولى الدراسات الأميركية عن تبعات حرب تموز، فكانت تلك التي أصدرها مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أحد أبرز أشكال التغلغل الإسرائيلي في القرار الأميركي، تحت عنوان «حرب حزب الله ـــــ إسرائيل: دراسة تقويمية»، وفيها عالج الباحثان دايفيد ماكوفسكي وجيفري وايت الشقيّن العسكري والسياسي للحرب، دون أن يخرج وايت في الشق الأول عن خطوط السياسة الأميركية الحمراء لدى الحديث عن القدرات العسكرية الاسرائيلية، بينما قدم مدير برنامج دراسات عملية السلام في الشرق الأوسط في معهد واشنطن دايفيد ماكوفسكي في المعالجة السياسية نظرية شاملة لإنشاء «آليات اتصال» بين لبنان وإسرائيل كإحدى نتائج الحرب.
ولتحقيق هذا الهدف، دعا ماكوفسكي، الذي كان أول مراسل لصحيفة إسرائيلية يزور السعودية عام 1995، الى «المحافظة على الحكومة اللبنانية» برئاسة فؤاد السنيورة، باعتبارها «أحد الإنجازات الديموقراطية» للإدارة الأميركية في الشرق الأوسط.
ويبني ماكوفسكي موقفه على خطاب السنيورة الذي «عرض علانية أن يمثّل اتفاق الهدنة عام 1948 مع إسرائيل أساساً للمحادثات بين الطرفين»، مشيراً الى أن الأخير دعا «مراراً إسرائيل للانسحاب من مزارع شبعا لحرمان حزب الله ورقة سياسية»، مما يتيح لإسرائيل «فرصة لتبديل رؤيتها الى قضية المزارع، وأن ترى في انتقالها الى لبنان وسيلة لتوطيد العلاقات الثنائية معه».
تعليقات: