عاموس يدلين- رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة
إسرائيل: التحديات الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين..
تواكب إسرائيل، بدقة، التغيّرات الجذرية التي ترى أنها تحصل في البيئة الاستراتيجية المحيطة بها. وهي تعتقد أن هذه التغيرات تحمل في طياتها تحديات متنامية، تقرّ بأن بعضها من نوع جديد، يختلف عما كانت تواجهه في العقود الأولى لنشأتها. في ما يأتي إطلالة نادرة على خصوصية الرؤية الإسرائيلية للتحديات الاستراتيجية الماثلة أمام الدولة العبرية، التي تأتي على لسان المسؤول عن «التقدير القومي» لإسرائيل، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اللواء عاموس يدلين. ألقيت محاضرة يدلين بتاريخ 15/12/2009، في سياق ندوة نظمها مركز دراسات الأمن القومي ـــــ جامعة تل أبيب، حاضر فيها إلى جانب يدلين، كبار المسؤولين الإسرائيليين، تحت عنوان «التحديات الأمنية في القرن الواحد والعشرين»، وأعيد نشرها في إصدار خاص، بتاريخ 19/08/2010.
سُمع في البلاد صوت خافت، في نهاية العام الماضي، يشير إلى أن حركة حماس لا تطلق النار، بل وتمنع منظمات صغيرة من إطلاق الصواريخ. وسمع أيضاً أنّ حزب الله لم يتدخل في القتال جنوباً (قطاع غزة)، وواصل الهدوء منذ حرب لبنان الثانية. بالطبع، لا يعود الهدوء إلى أن أعداءنا أصبحوا صهاينة، بل هو مزيج من بين عدة عوامل كابحة، قسم منها من صنع أيدينا، وقسم آخر يأتي من ظروف غير خاضعة لسيطرتنا.
العامل الأول في الهدوء الحالي مرتبط بالردع الإسرائيلي. الردع الذي بدأ بالثمن الذي جبيناه من حزب الله في حرب لبنان الثانية، وصولاً إلى عملية الرصاص المسكوب. إلا أن الردع حالة متملّصة وغير قابلة للقياس، ومن الصعب توقّع مداه في المستقبل. رغم ذلك، وفي نظرة إلى الوراء، تجنّب العدو الضغط على الزناد والإضرار بإسرائيل.
يعتمد الردع، في أساسه، على حساب بسيط يجريه العدو بين الربح والخسارة، بين فائدة الإضرار بنا والتداعيات والثمن. والثمن مشتق من إدراك العدو لقدرتنا على الإضرار به، واستعداده للمخاطرة رغم ذلك، والعدو يقدّر حالياً أن الثمن مرتفع، ولديه شك في قدرته على توقع خطواتنا بعد فشله في ذلك عام 2006 في لبنان وعام 2008 في غزة.
زُعم في الماضي أنه جرّاء عدم وجود أي شيء تخسره المنظمات الإرهابية، فلا مجال للاعتماد على الردع. لكن الواقع أظهر وجود تغيير في طابع المنظمتين، حزب الله وحماس، وهو التمأسس والانضمام إلى المؤسسات السياسية وتحمّل المسؤولية، وبالتالي الإصغاء جيداً إلى مطالب الشعب، ويتجسّد ذلك في الكلمة الإنكليزية «Accountability»، التي لا رديف كاملاً لها في اللغة العبرية، وتعني «تحمّل المسؤولية والمحاسبة».
دفعت العمليات العسكرية في لبنان وغزة حزب الله وحماس والموجودين أساساً في حالة من التوتر بين الهويات، أي توتر بين السيادة والمعارضة، وبين العمل على الوصول إلى السلطة والمواجهة، شيئاً فشيئاً إلى اختيار الهدوء المؤقت.
ما دامت العملية السياسية غير مفعّلة، فإن مكانة إسرائيل السياسية آخذة بالانسحاق
مع ذلك، لا يمكن ردّ الهدوء السائد إلى الردع الإسرائيلي، ولـ«تحمّل المسؤولية» (Accountability) وحسب. فثمة عوامل أخرى مساهمة، وعلينا فهمها كي لا نقع في الوهم بأن الهدوء سيستمر إلى الأبد. فالجبهات هادئة لأن أعداءنا يستغلون الهدوء ويقضون ليلهم ونهارهم في عمليات ترميم القوة وبنائها تمهيداً للجولة المقبلة. كذلك فإن أعداءنا يواجهون صراعات قوى داخلية، سواء على الساحة اللبنانية، أو الفلسطينية أو الإيرانية، وهي صراعات تتطلب منهم صرف طاقة وموارد، وقد لا يسهم الاشتباك مع إسرائيل في تعزيز مكانتهم الداخلية.
وفي النهاية، أدركت المنظمات الإرهابية أهمية الشرعية، وأهمية تعاطف العالم والإعلام الدولي، والحاجة إلى الحصول على شرعية للحكم وللمواقف، وبالتالي فإن الإضرار بشرعية إسرائيل ما هو إلا حافز إضافي للهدوء ومواصلة وقف إطلاق النار.
ننتقل إلى التحديات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، وأرصد في هذا المجال سبعة تحديات، وهي:
- تحدي تحوّل إيران إلى دولة نووية.
- تحدي التعاون والتعلم في المحور الراديكالي.
- تحدي ساحة القتال الهجينة التي تواجهنا.
- تحدي الكيانين الفلسطينيين
- تحدّي المحافظة على الشرعية.
- تحدّي التنسيق مع حلفائنا.
- تحدي المحافظة على الفجوة التكنولوجية.
أوّلاً: تحدّي تحوّل إيران إلى دولة نووية
تمكنت إيران في السنوات الأخيرة من التقدم نحو السلاح النووي، لكنّ التوقيت مرتبط بقرارها هي، إضافة إلى سعيها إلى الهيمنة الإقليمية.
والبرنامج النووي، بحسب الاستراتيجية الإيرانية المتبعة، لا يرتبط بالوصول التكنولوجي السريع إلى القنبلة، بل باستراتيجية موزونة ودقيقة، وهي التقدم بنطاق واسع لتثبيت أساس نووي، مع تقصير المدة الزمنية نحو القنبلة، عبر دفع أثمان دنيا.
أنشأت إيران بنى تحتيّة متنوعة لمصانع ذات صلة، وطوّرت قدرات نووية في مسارات كثيرة، تحت مبادئ: الأولوية، التوزيع والحماية. ويتعلق الأمر بقنوات تخصيب اليورانيوم، وتوزيع البرنامج على مواقع مختلفة، علنيّة وسريّة، مدنية وعسكرية، الأمر الذي يتيح لها الاختراق في الوقت الذي تراه مناسباً. وإلى ذلك الحين، تعمل ضمن وتيرة تقدم مرتبطة بالضغط الدولي الممارس عليها، في محاولة منها لدفع أقل الأثمان.
الحركة نحو القنبلة النووية ستحدث في توقيت مستقبلي، تقدّر فيه إيران أن الظروف الاستراتيجية تتيح لها تقدّماً آمناً نسبياً. وهناك بديلان من الاختراق، الأول بواسطة الانسحاب من اتفاقية الحدّ من انتشار الاسلحة الذرية ـــــ NPT ، والثاني أن تتقدم بمسار سرّي.
وفي ما يخصّ التحدّي الإيراني، من المناسب إنعام النظر إلى ثلاث ساعات. وهي الساعة التكنولوجية والساعة الدبلوماسية وساعة استقرار النظام.
لقد أوشكت الساعة التكنولوجية على إكمال دورتها. ففي عام 2008، تحكّمت إيران في تكنولوجيا التخصيب تماماً.
وفي عام 2009، جمعت في نتانز كمية من المواد تكفي لصنع قنبلة أولى.. وفي موازاة ذلك، تثابر إيران على تحسين قدراتها الصاروخية، التي تعمل بالوقود الصلب، وتعمل على إطالة مداها.
ولجهة الساعة الدبلوماسية، فقد بدأت بالتحرك، بعد أن كانت عالقة في السنوات الأخيرة. قبل حوالى عام، أشرنا إلى أن حواراً ناجحاً هو خيار جيد لمعالجة الملف النووي الإيراني، لكننا قدّرنا أيضاً أن هناك شكاً في أن ينجح هذا الخيار. وللأسف، فإن تقديرنا يتحقق، لكن كان من المهم التروّي قليلاً وإعطاء فرصة للحوار، من أجل ربط الدول العظمى الست بعجلة المرحلة المقبلة، وهي مرحلة العقوبات.
يدور نقاش في شأن فائدة العقوبات على إيران، وثمة من يعتقد بأنها لن تؤدي إلى تأثير فعلي، بل من الممكن أن تسبّب التفاف الشعب حول النظام. وفي المقابل، ثمة من يعتقد بنموذج جنوب أفريقيا، دليلاً على قدرة العقوبات في الوصول إلى أهداف سياسية. ومن جهتي أطالب بالانحياز إلى الرأي الثاني.. فالخشية من أن تؤدي العقوبات إلى الالتفاف حول مؤسسة الحكم قد ضعفت جوهرياً في أعقاب حوادث الانتخابات عام 2009، وبات من المشكوك فيه أن يتحمّل الجمهور الإيراني استفزاز قادته للعالم بأسره.
أما لجهة استقرار النظام، فالبشرى الجديدة التي حملها عام 2009 هي بداية التحرّك، المتردد في الواقع، لعقارب ساعة تغيير النظام، التي كانت في السابق معطوبة ولا تضبط مواعيدها. الأنباء السيّئة هي أن النظام عالج الاحتجاج بنجاعة وأوقف زخمها، وفي الوقت نفسه لم يغمر شوارع طهران بالدم، بل أدار معركة حاسمة وسرية وناجعة ضد مراكز الاحتجاج. أما الأنباء الجيدة فهي بروز صدعين أساسيين في إيران: الأول بين النظام والشعب، والثاني داخل النظام نفسه، بين أبناء الثورة.
بلا علاقة بالساعات الثلاث، من المهم أن ندرك أنه في اللحظة التي تنجح فيها إيران، نهائياً، في تثبيت مكانتها وصورتها كدولة أساسية ومفتاحية، وتمتلك العلم والقدرة للسير إلى ما وراء الحدود (نووياً)، سيشعر حلفاء إيران في المحور الراديكالي بالمزيد من الثقة للقيام بخطوات، لا يجرؤون اليوم على المخاطرة بها.
التحدّي الثاني: التعاون والتعلّم في المحور الراديكالي
يشمل المحور الراديكالي كلاً من إيران، سوريا، حزب الله والمنظمات الإرهابية الفلسطينية. وقد سبّبت الضربات العسكرية التي تلقّاها المحور في الأعوام الثلاثة الماضية، إضافة إلى الصعوبات في الساحة الداخلية لإيران ولبنان، تعزيز التعاون بين هذه الجهات إلى مستويات لم نر مثيلاً لها في السابق.
ثمة مواقع معروفة جيداً في إيران وسوريا، تجري فيها تجارب لمنظومات أسلحة، ويمكن تشخيص وجود ضباط إيرانيين وضباط سوريين ونشطاء من حزب الله يتحركون خلالها، بل إنهم في بعض الأحيان يدعون عناصر من حماس أو الجهاد الإسلامي الفلسطيني للمشاركة.
وما يحصل هو الآتي: الإيديولوجيا، التدريب، التكنولوجيا، العقيدة والتوجيه من إيران. الصناعة، من الأفضل أن تكون في سوريا. والناتج موزّع بين كل أعضاء المحور. وبالتالي، فإن الشرق الأوسط مخروق بعدة شبكات مشتركة بين إيران وسوريا وحزب الله وأيضاً حماس. وهذه الشبكات تعمل في تهريب الوسائل القتالية عبر البر والبحر والجو. عبر السودان إلى غزة، وفي الشمال إلى سوريا ومنها إلى حزب الله.
أزال الإيرانيون والسوريون تقريباً كل القيود الموضوعة على نقل السلاح إلى حزب الله وحماس. وفرضية العمل لدى الاستخبارات الإسرائيلية هي أن كل سلاح، مهما كان حديثاً ومتطوراً، موجود لدى إيران أو سوريا، فسيصل عاجلاً أو آجلاً إلى لبنان. كذلك لدى هذا المحور شبكات أخرى استخبارية وإنذار مبكر ترصد نشاطات الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل..
بصفتي رئيساً للاستخبارات العسكرية، من واجبي أن أحذر إن كانت المواجهة قريبة أو لا، لكن في الوقت نفسه، هناك مجال لا يقل أهمية، وهو الإشارة إلى ما يحصل عندما لا ترعد أصوات القذائف.
ما يحصل في حالة الهدوء الحالية هو نشاط إضافي ذو بُعد سرّي لدى المحور الراديكالي. وهو بُعد أسمّيه «سباق التعلّم». فجهات المحور الراديكالي درست جيداً عِبر الحرب في لبنان وتعمل على تطبيقها وملاءمتها، سواء في الجيش السوري أو في الجيش الإيراني. وتُحلّل المواجهة في غزة (عام 2009) في طهران وفي بيروت، بالمقدار نفسه من العناية التي توليها حماس.
وهكذا تمرّ مفاهيم استخبارية، ونظريات فلسفية، ومناقشة نقاط الضعف والقوة الخاصة بالمجتمع الإسرائيلي. كذلك فإن المعلومات الموجودة في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ووسائل الإعلام، تقدّم ميزة مهمة لتحصيل المعلومات المطلوبة عن إسرائيل من قبل المحور الراديكالي، ويعود ذلك لكثرة المعلومات المتوافرة والتكنولوجيات المتقدّمة الموضوعة في خدمة العدوّ، مع وجوب الإدراك أن لدى العدو أهليّة للتعلّم، وبالتالي، المطلوب من إسرائيل أن تقوم بعمل مضاد واستخبارات نوعية وأهلية بحث واستخلاص العبر، وعليها أن تنتصر في المنافسة على المعلومات، وهو تحدّ قائم ومهم جداً، وآخذ بالتعاظم.
التحدّي الثالث: ساحة القتال الهجينة
على إسرائيل أن تكون مستعدة في الوقت نفسه لمواجهة ثلاثة أنواع من التهديدات بما يرتبط بطبيعة المواجهة المقبلة. الأوّل هو التهديد التناظريّ والتقليدي بين الجيوش، كما في الخمسينيات، والستّينيات والسبعينات. والثاني هو التهديد غير التناظري، الذي بدأ بالاتساع حتى وصل إلى الجيوش النظامية، ويرتبط هذا النوع بعدو لا يرتدي زياً عسكرياً ولديه عبوّات، وانتحاريّون، وصواريخ قصيرة المدى، ويعمل على الإضرار بالمدنيين ويختبئ خلف المدنيين. أما النوع الثالث، وهو الأكثر أهمّيّة، فقد جرت العادة على تسميته بالتهديد الهجين، أي المزج بين ميزات تناظريّة لمعارك ذات وسائل قتال كبيرة وقدرات على السيطرة والتحكم من العالم التناظريّ، وأدوات ووسائل إرهابيّة من العالم غير التناظريّ.
ثمّة ظاهرتان بارزتان لا يمكن تجاهلهما في تعاظم العدوّ، وهما التجهّز غير المتوقّف بسلاح منحني المسار، انطلاقاً من زيادة الكميّات، الأمداء، والدقّة، والانتقال إلى القتال من تحت الأرض، ونحن نتواجه اليوم قبالة جبهات مختلفة، من سوريا إلى إيران وحزب الله، المنظّمة الإرهابيّة الوحيدة في العالم التي تملك صواريخ أرض ـــــ أرض، ولديها القدرة على تهديد غوش دان، بل إنّ حماس تحاول التوصّل إلى هذه القدرة. فأعداؤنا لا يهدأون ويبذلون كلّ جهد ممكن لتحسين قدراتهم وجلب المزيد من الوسائل القتالية الأكثر دقّة، والأكثر تنوّعاً، والأكثر عمقاً، ضد إسرائيل.
الظاهرة الإضافية في هذا المجال، التي يتّسم بها ميدان المعركة، هي الانتقال إلى تحت الأرض. فتجربة حرب لبنان الثانية علّمت أعداءنا ميزات إقامة الخنادق والاحتماء ضدّ قدرات التسليح الموجّه والدقيق، والتفوّق الجوّي لإسرائيل. إنّهم يستعدّون للقتال من داخل الحفر، إطلاق النار من الأنفاق، والتحرّك من مكان إلى آخر دون الظهور على سطح الأرض. وهذا التحدي، إضافة إلى عشرات الآلاف من الصواريخ، لا يمكّن من احتلال الأرض وحسم المعركة. فتأثير من يختبئ تحت الأرض على ميدان المعركة هو تأثير إشكالي ومقيّد، وبالتالي على الجيش الإسرائيلي أن يطوّر عقائد وأساليب قتالية تعالج العيوب، وتعرف كيف تحسم المعركة رغم هذه الصعوبات.
التحدّي الرابع: الكيانان الفلسطينيّان
تلوح في السنوات الأخيرة، صعوبة بارزة في إيجاد حل متماسك للموضوع الفلسطيني، إزاء تباين وإقامة كيانين فلسطينيين منفصلين ومختلفين بعضهما عن بعض، إيديولوجياً وسياسياً، وكلاهما لا يسارع حتى الآن، للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل.
ليس في غزة ولا في الضفة الغربية مؤسسات لدولة مقبلة تتطلع للحصول على شرعية داخلية وخارجية. يترسخ في غزة كيان متطرف معادٍ يرى في المعارضة الإسلامية وسيلة مركزيّة للقضاء على إسرائيل وإقامة دولة شريعة إسلامية على كل أراضي فلسطين التاريخية، من البحر الى النهر. أمّا لدى السلطة الفلسطينية في الضفة، فهناك شخصيات على رأسها الرئيس أبو مازن، تعارض الإرهاب وتنفر منه وتؤمن بحل تسووي كخيار وحيد. لكن في أعقاب الانفصال الأحادي الجانب عام 2005، برزت في السلطة الفلسطينية فكرة جديدة بشأن تقدّم أحادي الجانب. فالسلطة الفلسطينية ترسل إشارات بأنها لا تزال مهتمة بدفع العملية السياسية قدماً، وتعمل في الوقت نفسه على أدوات أخرى. إن كانت إسرائيل غير مستعدة للالتزام بشرط الانطلاق بالعملية السياسية، فلا بدّ من محاولة فرض أبرز نتائج الاتفاق عليها، قبل الانتقال إلى المفاوضات. ولتطبيق هذه الفكرة، تعمل السلطة في نهج كمّاشة، أي من الأسفل والأعلى.
تبني السلطة من الأسفل المؤسسات العتيدة للدولة الفلسطينية بدعم اقتصادي وسياسي من المجتمع الدولي. وفي المقابل، من الأعلى، يقود أبو مازن ومسؤولو السلطة عملية تُملى فيها شروط التسوية، من قبل المجتمع الدولي، على إسرائيل.
التحدّي الخامس: المحافظة على الشرعيّة
يحظى سلوك إسرائيل ومواقفها بشرعية متضائلة وسط المجتمع الدولي. ويمثّل الهدوء، على نحو غير معقول، أحد العوامل المسؤولة عن ذلك. الهدوء الذي ذكرته في بداية حديثي. فالعالم ينحو للوقوف إلى جانب من يُعدّ ضعيفاً، وحقيقة أن إسرائيل لا تعاني في الفترة الأخيرة من الإرهاب، ولا من التهديد العسكري المباشر، يجعل من السهل على المجتمع الدولي الطلب من إسرائيل تغيير مواقفها وإظهار الليونة والتساهل. وما دامت العملية السياسية غير مفعّلة، فإن مكانة إسرائيل السياسية، آخذة بالانسحاق.
والمثال البارز على الصعوبة السياسية والإضرار بميزان الشرعية، هو التحسّن في المكانة الدولية لسوريا، إذ تحولت سوريا من دولة محاصرة ومعزولة إلى دولة شرعية، وهذا دون أن تغيّر طابع نشاطاتها السلبية حيال العراق ولبنان وإسرائيل. فكل أسبوع، يستضيف الأسد في قصره وزراء خارجية محترمين من أوروبا، أعضاء من مجلس الشيوخ، أعضاء من الكونغرس، ملوكاً وأمراء من دول عربية.
في الوقت الذي يصطفّ فيه الضيوف على مدخل مكتب الرئيس السوري، ينسلّ من الباب الخلفي حسن نصر الله وخالد مشعل وعناصر أمنية إيرانية، أنهوا الاتفاق على شراء وسائل قتالية ونقل العلوم والمعرفة، التي ذكرتها سابقاً. وفي هذه الحالة، لا عجب في أن الأسد سيشعر بثقة كافية لتأجيل المطالب التي وضعتها أوروبا في المجال الاقتصادي وفي مجال حقوق الإنسان، وأن يرفض التوقيع على اتفاقية شراكة كانت صيغت سابقاً، كما أنه سيواصل غضّ النظر عن تيار نشطاء الجهاد العالمي، الذين ينتقلون إلى العراق.
وتحدي الحاكم السوري، الحاصل على شرعية جديدة رغم نشاطه السلبي، هو تحدٍ سيرافقنا في السنوات المقبلة. ومع هذا، أودّ الإشارة إلى أنه مع مرور الوقت، يتعمّق الدور السلبي السوري، ويتركز مكان الأسد في المحور الراديكالي. الأسد ليس مغروزاً طبيعياً في هذا المحور، فسوريا هي دولة علمانية، ولا تَستبعد، خلافاً لإيران ولحزب الله ولحماس، إمكان التوصل إلى سلام مع إسرائيل. ويكمن في اتفاق سلام معها، تغيير إيجابي في المحيط الاستراتيجي لإسرائيل، أي إخراج سوريا من دائرة العداء، وقطع حلقة الاتصال بالمفهوم الجغرافي ومفاهيم أخرى، عن المحور الراديكالي، كما يكمن في الاتفاق وقف الدعم السوري للإرهاب، الأمر الذي سيتقلّص من التهديد حيال دولة إسرائيل.
التحدّي السادس: التنسيق مع حلفائنا
نتشارك في صراعنا مع إيران ومع المحور الراديكالي، مع دول غربية وعربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. والحلف بين أميركا وإسرائيل هو حلف متين، يستند الى مصالح متماثلة وتقليد يمتد لعشرات السنين. والمحافظة على هذا الحلف هو تحدّ، وهو التحدّي الأهم.
إننا أمام إدارة أميركية تواجه مشاكل كثيرة وقاسية: في الاقتصاد، وفي استقرار المنظومة المالية، وفي المواجهة على التأمين الصحي، وهذه هي اهتماماتها في الشأن الداخلي، أما في الشأن الخارجي، فنجد أن باكستان وأفغانستان والعراق وكوريا الشمالية، تأتي قبل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وأحياناً قبل قضية إيران. والاختلاف في جدول الأعمال بين إسرائيل والولايات المتحدة، يقتضي منا محاولة فهم العالم كما تراه واشنطن، ومحاولة مشاركتها هي النظرة بقدر المستطاع. ففي الوقت الذي يصاب فيه جنود أميركيون كل أسبوع في أفغانستان والعراق، إلى جانب التحدّيات الاقتصادية الهائلة أمام الإدارة الأميركية، من الطبيعي أن لا تحتل اهتمامات إسرائيل دائماً، المكان الأول لدى واشنطن، مقارنة بالسابق.
مع هذا، أشعر أنه مع مرور عام على ولايتها، فإن الإدارة الأميركية تدرك جيداً جداً حجم التحديات التي تواجهها في منطقتنا، وتدرك أنه إلى جانب التحديات الكبيرة «للإقفال» على الوسائل الدبلوماسية داخل صندوق، وتفضيل وسائل استقرار الدول، أن ثمة قيوداً لهذه الوسائل. هناك من بين حلفائنا من يعتقد أن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو المفتاح لحل كل الصراعات في العالم. وجميعنا نبتغي حل الصراع ذي المئة عام، بيننا وبين الفلسطينيين، لكن مع هذا، من المشكوك فيه إن كان هناك في رام الله أو غزة مفتاح حل الصراعات في كوريا الشمالية، وباكستان، وأفغانستان، وإيران، والسودان والصومال.
إذا كان هناك من مشكلة يجب علينا إيجاد حل لها، على أمل التحسن في أوبئة الشرق الأوسط، فهي إيران. مع حل مشكلة إيران، فإن المشكلة العراقية ستكون أبسط، ومن شأن أفغانستان أن تصبح أقل تعقيداً، وميل سوريا إلى التصرف على نحو سلبي سيضعف، ونصر الله سيضطر إلى دراسة خطواته بحذر أكبر، بل إن المشكلة الفلسطينية ستصبح أكثر قابلية للحل، بعد سقوط قاعدة الدعم عن أرجل حماس.
التحدّي السابع: المحافظة على الفجوة التكنولوجيّة
تبلور في الجيش الإسرائيلي، وبصورة أساسية كعبرة من حرب يوم الغفران، أن التميّز التكنولوجي هو عامل مصيري في القدرة على ردع العدو والتغلّب عليه عند الحاجة. تجسّدت الأمور بالصورة الأوضح في تنمية وتطوير عاملي التفوق الجوي والتفوق الاستخباري، وفي التقاء العاملين في ساحة القتال الذي تُرمى فيه ذخيرة دقيقة على أهداف، يحسم تدميرها معارك. والتفوق في هذه المجالات، تحول إلى حجر الزاوية في الأمن القومي الإسرائيلي.
الفجوة التكنولوجية بين إسرائيل وأعدائها مهددة في دوائر كثيرة. فأعداؤنا، يتَحدّون في مجال الدفاع والهجوم، وفي التفوق الجوي للجيش الإسرائيلي وفي السلاح الدقيق وفي التفوق الاستخباري. قسم من القدرات التي كانت محصورة بنا، أصبحت اليوم في متناول أيدي الأعداء. وحالياً، يعمل أعداؤنا على تهديد ثروات أمنية إسرائيلية، وتقلص قدراتنا الهجومية والدفاعية، وذلك من خلال صواريخ دقيقة، سلاح مضاد للدروع من أجيال متطورة، حوسبة متقدمة ورصد عبر الأقمار الاصطناعية، منظومات «جي بي اس»، طائرات من دون طيّار، وطائرات صغيرة من دون طيّار. مع هذا، ورغم أن العدو أصبح مجهزاً أفضل من الماضي، إلا أنه لا يزال بعيداً عن قدرات الجيش الإسرائيلي، والتحدّي أمامنا هو في المحافظة على الفجوة.
ضمن ذلك، يمكن الحديث عن موضوع مرتبط بالفجوة التكنولوجية، وهو البعد «السيبيري» (cybernetic)، إذ باستطاعة العدو تطوير منظومات قيادة وتحكّم، تخزين ومشاركة حجم هائل من المعلومات، تشفير معلومات وحماية منظوماته بسهولة، بينما كان الأمر قبل عدة سنوات غير ممكن بالنسبة إليه.
توقّفوا لحظة وفكّروا بحاسوبكم الشخصي الموجود في المنزل، فكّروا في أرشيف الصور الكامل الخاص بكم، وبماذا يمكن أن يعطي معلومات عن مجال اهتمامات العدو. خصّصوا لحظات عدة من التأمل في الوثائق المهنية المحفوظة في جهازكم، وماذا يمكن غريباً أن يفهم منها، ماذا يفهم من حسابكم المصرفي، ومن طلبات وحجوزات السفر إلى الخارج، ومن عناوين بريدكم الإلكتروني. كل حياتنا اليوم هي في محيط عالم محوسب، من حاسوب بحجم كف اليد، مروراً بالخلوي والإنترنت، ومن ينجح في اختراق هذه العوالم، قادر على معرفة الكثير جداً من الأمور، واللبيب من الإشارة يفهم.
المسألة لا تقتصر فقط على معلومات مخزنة في شبكات الحاسوب، كل التحكم بمنظومات حياتنا هو عبر الحواسيب. ففي نيسان 2007، هوجمت مواقع حكومية، ومصارف وصحف في أستونيا، ووجهت أستونيا أصبع الاتهام إلى روسيا، لكن حتى اليوم لم يتأكّد نهائياً من وقف خلف الهجوم. في الحرب في جورجيا، اتهم المواطنون الروس بمهاجمة شبكات تحكم محليّة خلال الحرب في صيف 2008. والحادثة الأخيرة في هذه اللائحة الجزئية، هي مهاجمة شبكات حواسيب في أميركا وكوريا الجنوبية، وقد اتهمت استخبارات كوريا الجنوبية جارتها كوريا الشمالية بالهجوم، وحتى اليوم لم يجر التأكد من الادّعاء.
دعونا نترك هجمات الماضي، وننظر إلى المستقبل، حلّلوا بأنفسكم حجم الضرر الذي يمكن أن يحدثه مخترق حاسوب ماهر في حال نجاحه في التسلل إلى منظومات الرقابة المحوسبة لشركات بنى تحتية، مواصلات واتصالات (في إسرائيل).
عندما نبحث اليوم بصورة صحيحة عن مواجهة البعد السيبيري، يعتقد الكثيرون أن الدفاع يجب أن يكون في مكان واحد، مع قدرة على الجمع والهجوم.
ما زال من الصعب تقدير كيف سيغيّر السايبر عالم الحروب. السايبر يقدّم لدول صغيرة ولأفراد، قوة كانت في السابق محفوظة فقط لدول عظمى، وبشكل يشبه التقدّم الذي طرأ على مجال الطيران غير المأهول، فإن هناك إمكانية قائمة بتفعيل قوة لا تعرّض حياة المقاتلين للخطر، لكنها قادرة على الإضرار بعوامل قوة عسكرية وبأداء اقتصادي للدول، الأمر الذي يطرح أسئلة مثيرة للاهتمام، أسئلة غير بسيطة يجب علينا بحثها، ليس فقط داخل الغرف المغلقة.
تتعلق هذه الأسئلة بطبيعة الردع، الذي سيمنع حرباً في العالم السيبيري، بطبيعة الردع من هجوم محتمل، وكيف نحدّد المسؤولية عن أحداث في هذا العالم، وبأي شكل نبدأ مواجهة تتصاعد من مفاتيح مجهولة. أصدقاؤنا في العالم يتشاطرون معنا القلق من هذه الأمور المحيّرة، فقد أقيمت في أميركا قيادة سايبر، وفي بريطانيا أقيمت هيئة رسمية مسؤولة عن هذا المجال.
ما يحصل في فترة الهدوء الحالية لدى المحور الراديكالي، يمكن أن أسمّيه «سباق التعلّم»
تشخص الدول العظمى وجود عالم جديد، يجب على أحد ما تحمّل مسؤوليته. وأنا أطلب الإشارة في هذا المنتدى المحترم إلى أن مدى القتال في السايبر يناسب جداً المفهوم الأمني لدولة إسرائيل، ويتعلق الأمر ببعد لا يستلزم موارد مالية باهظة ولا يحتاج إلى طبيعة خاصة جداً، بل يتعلق الأمر بمشروع مشغّل بقدرات إسرائيلية، وغير مرتبط بمساعدة أو بتكنولوجيا أجنبية، يدور الحديث عن مجال معروف جيداً لدى الشبان الإسرائيليين، في دولة جرى تعريفها أخيراً بأنها دولة تكنولوجية ناهضة جداً، والمحافظة على الريادة في هذا المجال مهمة وخاصة، على ضوء وتيرة التغيرات المسبّبة للقلق في عالم السايبر.
إن كان لدى الطيارين الأوائل سنوات عدّة للاعتياد على كل قفزة نوعية، فإن أمامنا اليوم، وفي أفضل الأحوال، أشهراً معدودة للاستجابة لكل تغيير. ومن دواعي سروري، أنني ألتقي يومياً الجنود والضباط الشبان، الذين وظيفتهم قيادتنا بأمان إلى هذا العالم الجديد، ومن هذه اللقاءات استمد التشجيع، حيث إن لدينا كل ما يلزم لمواجهة نخبة السايبر.
وفي الختام، عرضت أمامكم سبعة من التحديات المركزية التي تواجهنا، ومن طبيعة الكلام، كفرد من الاستخبارات، فإن نظري موجه باتجاه العالم الذي يحيط بنا، وليس باتجاه دولة إسرائيل في الداخل. ومن المهم أن نعرف أنه في كل لحظة، هناك من يثابر على إيجاد حلول لمواجهة هذه
التحديات.
وأنا من منطلق معرفتي بالذين يجهدون في إيجاد حل، كلي ثقة بأن لدى إسرائيل القدرة، وستتمكن من مواجهة التحديات، وستبقى اليوم وغداً مكاناً آمناً ومزدهراً للحياة فيها.
* رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة
تعليقات: