بلدية الجرمق: بحث مستمرّ عن الهويّة

  وعود قطرية بإعادة البناء لكن من أين يأتي الأهالي بالأرض؟
وعود قطرية بإعادة البناء لكن من أين يأتي الأهالي بالأرض؟


63% من الناخبين المسجّلين في الجرمق انتخبوا مجلساً بلدياً. نسبة مرتفعة تكتسب أهمية مضاعفة إذا عرفنا أنّ البلدة لا تزال تبحث عن كيان، هي التي بيعت أراضيها خلال سنوات التهجير القسري، ما يجعل مهمّة بلديتها شبه مستحيلة

الجرمق القديمة، مهدّمة بالكامل منذ عام 1976، ثمة 21 بيتاً شيّدت في السنوات الماضية، عند الجهة الشمالية من الجرمق، تحديداً في محلة «العرقوب» ضمن نطاقها العقاري، هي التي باتت تمثّل العنوان الجديد لها. وقد خصّها مرسوم وزاري صدر عام 2002 ببلدية مستحدثة لتدير شؤون تلك القرية المتواضعة، الواقعة في أقصى جنوب قضاء جزين، مع أنها أقرب إلى النبطية وقضائها.

عندما انتخب أبناء البلدة مجلس بلديتهم الأولى، عام 2004، كان ذلك في «كونتينر» حديدي، عند الضفة الغربية للقرية القديمة «في هذا الكونتينر انتخبنا نواب المنطقة، وكان الأهالي مدركين أنّ خطوة بناء الضيعة يجب أن تبدأ من مكان ما، بحثنا ولم نجد في القرية التي كانت قائمة قبل هدم العدو الإسرائيلي لها، بيتاً واحداً، فآثرنا ممارسة حقنا الطبيعي ولو في صندوقة حديدية، إنما على أرض الجرمق» يقول رئيس البلدية نبيل شديد.

يرى شديد أن الأهالي «ما كانوا ليتوافدوا بالمئات من أجل انتخاب بلدية للمرة الأولى عام 2004، ثم البلدية الثانية، منذ ثلاثة أشهر، لولا يقينهم بأن دوراً للبلدية قد يسهم، حتى لو تأخر الأمر قليلاً، في إعادة بناء القرية». وهنا يشرح أن سنوات التهجير القسري التي استمرت نحو ربع قرن، أدّت إلى بيع أراضي الجرمق إلى مالكين لا يربطهم بها رابط واحد «وعندما عاد الأهالي كانت الكارثة قد حلّت ولا حول لهم ولا قوة في تبديل الواقع، علماً أنهم كانوا شركاء أصحابها في الزراعة، ولهم حق الشفعة في شراء الأراضي».

بعد وعود بري والحريري وعد جديد من سليمان

شديد متأكد من قدرة البلدية على أداء دور إيجابي في هذا المجال، يقول مستعرضاً تجربة البلدية الأولى «التي كانت قاسية، لأنّها على مكلّفين ليسوا موجودين أو مقيمين. وما كانت تجبيه البلدية من رسوم، فعلى بيوت، ثلاثة منها مسكونة في محلة العرقوب، والباقية لا يأتي أصحابها سوى مرات في العطل الأسبوعية، لكن أصحاب البيوت جميعها، كانوا يدفعون بعض الرسوم (نحو مليونين ومئة ألف ليرة لبنانية)». على الرغم من ذلك «ثمة محاولات واتصالات من البلدية أفضت إلى تشييد الكنيسة وبيت الوقف، أخيراً، على نفقة دولة قطر. وكذلك بُنيت دار للبلدية، على أرض قرب عين المياه، كانت من أملاك وزارة الطاقة والمياه، وفي هذه الدار انتخب الأهالي بلديتهم الأخيرة».

يشيد شديد بالأهالي الذين «يحتشدون في كلّ استحقاق من أجل انتخاب مجلس بلدي، وهذا يعني أن لا أحد منهم عنده قرار الاستغناء عن انتمائه إلى هذه القرية»، لذلك يرى أن المطلوب اليوم كخطوة أولى «البحث عن هوية للجرمق». يقول شديد: «واقع الجرمق أشبه بالكارثة. القرية موجودة على الخريطة والأرض، لكن سكانها مهجّرون ومقهورون ومنكوبون، مثل نكبة بلدتهم. زرنا في الأمس القريب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وأبدى كل اهتمام وتجاوب وحماسة لقضيتنا؛ ووعدنا بأنه سيسعى إلى إعادة بناء بيوت الجرمق على نفقة دولة قطر، بعدما تداول بالأمر مع أميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في زيارته الأخيرة للجنوب. لكنّ المشكلة المستعصية أن لا أراضيَ يملكها الأهالي لكي يبنوا عليها بيوتهم الموعودة».

مجموعة أسماء لا تمتّ إلى القرية بصلة، هي التي تملك أراضي القرية حالياً. «المالكون لديهم عقارات تفوق التصوّر، وتمنّينا عليهم أن يرحموا إخوتهم في الإنسانية، أن يرحموا من عاش وترعرع على هذه الأرض ورواها بعرق الجبين، وجدودنا دفنوا هنا في تربتها». يتنهّد رئيس البلدية ويتابع بلهجة فيها شيء من الحسرة: «المالكون اشتروا مساحات تبيّن لاحقاً أنها أكثر بكثير مما اشتروه، ونحن لا نريد أن يهبونا هذه الأرض مجاناً، لكن ضمن المعقول الذي يمكّن الأهالي من تملّك عقارات صغيرة، تكون صالحة لبناء بيوتهم، في حال الحصول على مساعدات من الدولة اللبنانية، أو من غيرها». يشير شديد إلى أن «دولة رئيس مجلس النواب نبيه بري وعدنا سابقاً بمنحنا نحو عشرين ألف متر مربع من حصة شقيقة زوجته السيدة سميرة عاصي، ولا نظن أنه سيتخلّى عن وعده، مع أننا نحتاج إليه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. كذلك تلقينا وعداً من دولة الرئيس سعد الحريري بأنه سيسعى إلى بناء القرية على نفقة دولة عربية، أو على نفقته إن لم تتوافر هبات عربية». ويقدّر حاجة الأهالي إلى نحو مئتي ألف متر مربع من أصل نحو 14 مليون متر، هي مساحة أراضي الجرمق والمزارع التابعة لها (الدمشقية، طمرا والعرقوب) لإعادة بناء قريتهم بعد أن يتملّكوا فيها.

القرية موجودة على الخريطة لكنّ سكانها مهجّرون

يرى شديد أن وجود البلدية عامل مهم، مع أنها لا تتلقّى أكثر من أربعين مليون ليرة سنوياً من الصندوق البلدي المستقل، تصرفها على الموظفين وعلى تأهيل الطرقات وتأمين المياه للأهالي «حفرنا أخيراً بئراً ارتوازية غايتها تأمين المياه للمزارعين وللبيوت الموجودة أو المأهولة في محلة العرقوب. لكن مياه الشفة لا تزال تُشترى على نفقة الأهالي. حفر لنا مجلس الجنوب مشكوراً بئراً تحتاج إلى تشغيل، وحصتنا من مياه نبع الطاسة لم نعد نتلقاها منذ عام 1976. لذلك سنجبي من كل بيت أجرة متر من المياه (220 ألف ليرة سنوياً)؛ وسيكون بدل نفقات لتشغيل البئر وصيانة المضخة. نحن حتى اليوم لم نتلقَّ أية أموال لنا في ذمة مصلحتي الكهرباء والهاتف».

لا خطط لبلدية الجرمق غير تسيير بعض الأمور الضرورية «ونصبّ كل جهدنا، في سبيل استعادة هوية قريتنا، لتصبح لأهلها، أو لتعود إلى أهلها، ثمة مشكلات معقّدة في بعض العقارات المملوكة من أبناء البلدة، تحتاج إلى قرار واضح من الدولة اللبنانية، يقضي بإعادة الهوية الحقيقية للجرمق مهما كلّف الأمر؛ وها هم النواب والوزراء يطرحون ما يجب أن يخفّف عن اللاجئين الفلسطينيين خارج وطنهم، لكننا نحن لاجئون داخل الوطن، فمن سينظر إلى مشكلتنا بجدية تامة؟ ومتى ستتحول الوعود إلى أمر واقع، يعيد نحو ألفي نسمة من أبناء الجرمق إلى حضن قريتهم، التي غادروها قسراً، ولم يعودوا إليها حتى اليوم؟».

لا مشاعات للبلدة

لا تمتلك بلدية الجرمق أية مشاعات قريبة. ويستغرب رئيس البلدية نبيل شديد أن مشاعات كفررمان أو كفرتبنيت (من جهة النبطية) أو سجد (جزين) تصل إلى حدود الجرمق، وهي في المقلب الآخر من كل بلدة، ولا توجد أمتار قليلة منها للجرمق «مع أنّ الحق الجغرافي بواقع الجبال المحيطة، يجب أن يمنح الجرمق حصتها من هذه المشاعات. حتى إن عين المياه «شقحة» كان أبناء القرية يستخدمون مياهها في عملية ريّ الأراضي، ولم تزل قنواتها موجودة حتى اليوم وظاهرة للعيان، وها هي بلدية كفررمان تجري حفرياتها فيها وهي الملاصقة لعقارات الجرمق؛ وتسعى إلى استثمار المياه التي تنبع منها بعد الكشف عليها وحفرها، وجرها إلى جبل «الطهرة» لتغذّي كفررمان، من دون مراعاة حقنا في هذه المياه».

تعليقات: