نحّاس أو \"مبيّض طناجر\"
كانت جميلةً زيارتهم إلى قريتنا، ولازالت محتفرةً في ذاكرتنا الطفولية ومتجذرةً في ماضينا الجميل، وامتداداً للزمن الأبيض الذي ما زادوه إلا صفاء وسماحة وطيبة ..
النحّاسون أو ما تعارفنا عليه بالعاميّة "المُبيّضون" رجالٌ تعلوهم مهابةٌ تحار معها باختيار أليق التشابيه وأقربها لصوقاً بهم, جوّالون بسطاء ما إن يهمّوا بحطِّ رحالهم وإضرام نيران مواقدهم حتى تهرع النسوة محمّلات بأوعيةِ وأوانِ نحاسية, وكلُّ واحدةِ منهن تتمنّى السبق لتقف أمام حضرتهم بخشوعِ واهتمام ..
.. وينهمك النحّاس بما بين يديه من أكوام القدور المتفحّمة, فلا يعير أذناً لثرثرة النساء, ولا يتكلّف الولوج في أخبار الأزقة المتخمة بتفاصيل أهلها, جلّ همه أن يرى لمعاناً في وعاء أو بريقاً يتلألأ في فم آنية ليقطف ابتسامات الرضى من عيون معجبة ..
تستريح الذاكرة عند ذكراهم, ويتأوّه القلب حنيناً لمن تأبّطوا زمانهم ولم ترض أكفهم تجميل القبيح أو تحسين الرديء..
النحّاسون مضوا وقد وجمّلوا أشياءنا وأعادوا إليها وجهها وحقيقتها, ومعهم مضت تلك المهنة الشريفة المزنّرة بحبّات الجبين ..
نحّاسو اليوم يا أصدقائي متمدّنون جدا, فلا مطارق و نيران ولا أوعية ونحاس .. تكاد لكثرتهم تتعثر بهم في كلّ مكان, تضيق بهم المجالس, وترتجّ بهم المنابر, وتزدحم بهم الساحات, بهلوانيون هم فوق حبال الكلمات, شعراء مفوّهون في نظم القوافي, رسّامون بارعون في مزج الألوان , نحّاتون مقتدرون في حفر الأوهام ..
النحّاسون أو المبيّضون الجدد يمتهنون تلميع الوجوه و تسويق الوعود الزائفة, يتقنون كيمياء الكلام, يجيدون صناعة الآلهة الورقية وترويج المبادئ التمرية ..
النحّاسون الجدد زئبقيون مكشوفون, لم تقوَ أوراق التين على ستر عوراتهم, ولم يتواطأ ليل المتعبين على تمويه أطماعهم ..
باعة المواقف هؤلاء, المصفّقون عُجبا, تماسيح البكاء .. حريُّ بأمةٍ واعيةٍ أن تنفضهم كغبارٍ عابرٍ على أجواخ العظماء ..
بقلم : الشيخ محمد قانصو
Ch.m.kanso@hotmail.com
تعليقات: