المربي محمد حسين ناجياً من مجزرة صور (أرشيف - وائل اللادقي)
معلم أساسي من معالم شارع الآثار في صور اختفى يوم 16 تموز 2006، فقد انهار جزء كبير من المبنى المرتفع الذي يحتلّ مركز الدفاع المدني الطبقة الاولى منه بعد استهدافه من الاسرائيليين مرتكبين إحدى أكبر مجازرهم في تلك الحرب.
«مجزرة لم تأخذ حقها في الإعلام» يقول أبو أمل المسؤول عن الكافتيتيريا الملاصقة للمبنى المستهدف. وهي الملاحظة نفسها التي يوردها أحد الشباب الموجودين في الكافيتيريا عندما يسأل مستاءً: «لماذا لم يهتمّ الإعلام بنا؟».
ورغم هذا العتب، لا يتردد أبو أمل في الحديث مع «الأخبار» مستعيداً لحظات ارتكاب المجزرة:
«كانت الساعة الرابعة والنصف، الموجودون في المكان كانوا ينتظرون خطاباً للسيّد حسن نصر الله، وهذا ما نجّانا من مجزرة أفظع، لأن كثيرين دخلوا إلى الكافيتيريا وإلا كانوا لاقوا حتفهم أيضاً».
بدأت الحرب سريعةً وعنيفة. لم يكن أحد يتوقع أن تتعرض مدينة صور، وتحديداً هذه المنطقة، للقصف «ليس لحزب الله أو مؤسساته أي مكتب في أي من المباني، المؤسسة الوحيدة هي مركز الدفاع المدني الذي لجأ إليه الكثيرون أصلاً اعتقاداً منهم أنه مكان آمن».
في الأيام الأولى من الحرب لم تكن مؤسسات الإغاثة قد بدأت عملها بعد. «الكثير من أبناء القرى المجاورة لجأوا إلى صور على أساس أنها آمنة. ولجأ المئات منهم إلى مبنى الدفاع المدني والمبنيين المجاورين له»، لافتاً إلى أن الطائرات الحربية الاسرائيلية بدأت منذ 14 تموز برمي المناشير فوق مدينة صور محذّرةً أهالي المنطقة من الاقتراب من مراكز «حزب الله».
العناية الإلهية أنقذت عدداً كبيراً من الموجودين. يتذكّر رئيس مركز الدفاع المدني عباس غريّب، أنه تلقى عند الساعة الرابعة إلّا ربعاً طلباً من اللاجئين لتوفير سيارات لهم تقلّهم إلى بيروت. بعد ربع ساعة عاودوا الاتصال به وقالوا «شكراً لقد أمّنّا سيارات». هكذا نجا نحو مائة وخمسين شخصاً من المبنى قبل نصف ساعة من المجزرة «الله سترنا».
يروي غريّب أنه قبل حلول الساعة الرابعة والنصف بدقائق معدودة، وصل ابناه إلى المركز ليعطياه «سندويشاً» أعدّته له زوجته، عندها حصلت المجزرة فأُصيب عباس وابنه علي، واستُشهد وجُرح العشرات من عائلات متطوعي الصليب الأحمر الذين كانوا قد أحضروا عائلاتهم لسببين: نقلهم إلى مكان آمن، وامتصاص قلقهم عليهم.
الدقائق الثلاثون الفاصلة بين الرابعة والرابعة والنصف كانت ملأى بالأحداث لمن بقي في المبنى وخصوصاً عناصر الدفاع المدني.
فقد تلقى غريب، الذي كان مسؤولاً عن تلقي الاتصالات من المناطق، ولا سيما بعد دمج مركزي القليلة وجويا، اتصالاً من أحد الأشخاص في دير قانون ـــــ المثلث يستنجد بالدفاع المدني لإنقاذ خمسة وعشرين شخصاً احتُبسوا في ملجأ مبنى هوى عليهم بعد إصابته مباشرة في غارة للطائرات الحربية الصهيونية.
أرسل غريّب مجموعة من الشباب الذين أخبروه أنهم بحاجة إلى جرّافة أو رافعة، فاتصل ببلدية صور والصليب الأحمر اللذين لم يستطيعا توفير أي آلية. جرّب دفتر هاتفه، اتصل بمن يعرف أنهم يملكون آليات من هذا النوع.. وبعد طول بحث، وجد غريّب آلية في مخيّم اللاجئين الفلسطينيين في منطقة البصّ في صور. وافق صاحب الجرافة لكنه قال لغريّب: «جرافتي تحتاج إلى مازوت، تغيير زيت، بطارية وسائق». فأبدى استعداده لتأمينها.
بعد إعداد الجرافة انطلق مسعفو الدفاع المدني في مهمتهم. ارتاح غريّب، ووضع يديه خلف رأسه. فجأة لمح غيمة سوداء كبيرة آتية صوبه. هنا لم يعد يعي ما يجري حوله. استفاق بعد فترة، محمولاً على حمّالة للدفاع المدني، رأى أخته مضرّجة بالدماء. سألها عن ابنيه فأجابت: «لم أرهما». ثم أتى ابنه، رأى والده فصرخ: «حتى أنت يا بابا». سأله عباس: «وين خيّك؟» فأجابه: «شفتو كله دم، ورأسه شقفتان» عندها غاب عباس عن الوعي ولم يعد يعرف ما حصل.
يكمل أبو أمل سرد بقية القصة «تعوّدنا أن نراقب القصف والغارات الإسرائيلية على منطقة البرج الشمالي والحوش. وعند الرابعة والنصف مساءً استهدف صاروخان فراغيان المبنى المؤلف من أربع عشرة طبقة. أصاب الصاروخ الأول الطابق الثامن فانهار المبنى من الطابق الثامن وما فوق».
في الطبقة العاشرة كانت تقيم الحاجة زينب فاخوري وخادمتها من التابعية السريلانكية (لم نستطع معرفة اسمها)، استشهدتا وبقيت جثتاهما في المكان إلى ما بعد انتهاء الحرب. «كان جزء من جسد الحاجة زينب ظاهراً للعيان، أما جثة خادمتها فتحوّلت أشلاء وتمّ انتشالها مع الردم، الله سترنا ولم يكن هناك أحد في الطوابق العليا غيرهما».
الصاروخ الثاني أصاب الطابق الأرضي من المبنى وهو بتألف من قاعة كبيرة كانت تحوي عشرات اللاجئين، الذين جرح العديد منهم.
وكيف سقط الشهداء؟ يجيب أبو أمل: «كان هناك تجمّع كبير أمام الكافيتيريا وميني ماركت يملكه محمد هلال. وقع الردم عليهم واستشهد معظمهم».
هرع متطوعو الدفاع المدني فوراً، أو من نجا منهم، وحاولوا نقل المصابين والشهداء، ولم يخل الأمر من صعوبة، إذ يلفت عباس غرّيب إلى أن «درج المبنى انهار، وكان هناك جرحى في الطابق الرابع منه، فاضطر متطوعو الدفاع المدني إلى صنع «طوق» (ثقب في الجدار بين المبنى المصاب والمبنى المجاور) لإنقاذهم». من بين الجرحى طفل عباس، علي الذي لا يزال يخضع للعلاج «استؤصلت عينه، ونحن الآن في مرحلة ترميم عظام الوجه».
استشهد في المجزرة أيضاً الشقيقان علي ونجيب شمس الدين، وهما وحيدان لوالدهما الذي يختنق صوته عندما يبدأ الحديث عنهما، ولا يواسيه إلا وجود أطفالهما رائد ومي ومحمد «بالأمس غلطت وقلت لمحمد روح قول للبابا فسألني: البابا؟».
تخونه دموعه وهو يسرد هذه الحادثة «ماذا يفعل الاسرائيليون؟ يعلّمون الأطفال الحقد».
قبل وقوع المجزرة بقليل، تعرّض مكان خلف مستشفى جبل عامل للقصف، اتصل علي بوالده وقال له «حرام، بيت ابو وائل راحوا كلّن، أجبته حرام حرام... دير بالك على حالك».
بعد نحو ساعة سُمع صوت انفجار قوي «لم يخطر في بالي أن يكون ولداي في خطر، لكن أحدهم سألني عنهما فقلقت وقررت أن أذهب إلى المحلّ حيث يعملان».
لا يبعد المحل عن مكان الانفجار كثيراً، غير أن علي ونجيب كانا مجتمعين مع الشباب في باحة المبنى الذي سقط «ماتا بسبب الردم الذي انهمر». يقول شارحاً رحلة بحثه عنهما في المستشفيات علهما يكونان على قيد الحياة «وصلت إلى مستشفى جبل عامل فلم أجدهما، اتصل بي صهري وسأل عن مكاني وطلب مني أن أنتظره إلى أن يأتي، وحين وصل أخبرني أن الشباب راحوا».
يشير إلى أن ابن خال ولديه أصيب بالحادث وهو مشلول اليوم...
محمد هلال، صاحب الميني ماركت والكافيتيريا اللذين حصلت المجزرة أمامهما، تكسّرت أطرافه الأربعة والحوض، وأصيب أيضاً في رأسه. ما زال يخضع للعلاج وللعمليات الدورية حتى اليوم. يقول: «عندما تعيش سنة كاملة من دون قدرة على الحراك، تعرف قيمة تفاصيل صغيرة في حياتك. لا يمكنك أن تعرف قيمة الكزدورة في شوارع صور وعلى كورنيشها إلا عندما لا يعود بإمكانك القيام بها. لا تعرف معنى أن تحكّ جلدك عندما يرعاك إلا عندما لا يعود بإمكانك القيام بذلك».
يقيم محمد هلال في شارع الآثار منذ ست سنوات «كانت الحركة ميتة فيه. فتحت الميني ماركت ثم الكافيتيريا، فبدأ سكان المباني المجاورة يسهرون عندي وتقوى العلاقة بين الجيران». يتمنى أن يستعيد حياته الطبيعية تدريجياً، لكنّه غير واثق من ذلك: «لقد فرغ الحي من سكّانه وبالتالي فإن العمل في الميني ماركت والكافيتيريا تدنّى كثيراً». أما المصيبة الكبرى بالنسبة لمحمد، فهي عندما يجلس مقابل الكافيتيريا: «أتذكر كل شهيد وجريح... هنا مطرح ما أنا واقف استشهد فلان... إنه شعور رهيب».
زهراء وشقيقها علي لحظة وقوع المجزرة
يستطلعان المكان للمرة الأولى منذ عام (وائل اللدقي)
تعليقات: