سليمان في مغارة كفرحيم أمس
ماذا يأمل اللبنانيون بعد الأحوال التي وصلت إليها البلاد وكأنها تدار بشبه هيكل للسلطة. أجهزة أمنية تبدو بديلاً للميليشيات، وغياب للسلطة القضائية. أما السلطات الأساسية، وفي مقدمها الرئاسات الثلاث، فباتت غائبة عن بناء الدولة، علماً بأن تاريخ لبنان شمل سعي بعض الرئاسات، كما أصحاب النفوذ، للعمل على زرع الأزلام في زواريب الدولة، ولو على حساب مشروع الدولة وشمولية الموازنة
لكل من الرؤساء الثلاثة تعليلاته عن عجزه. رئيس الجمهورية يشكو من نقص في الصلاحيات، ما يجعل مقام الرئاسة أشبه بمَلَكية بريطانيا. لكن هيبة الموقع وشخصية الرئيس يمكن أن تعوّضا غبن الطائف. أما الرئاسة الثانية، رئاسة السلطة التشريعية، فإنّ صوتها يرتفع كما حيويّتها ربطاً بالمصلحة المرحلية لتثبيت النفوذ. طبعاً، في المبدأ، لا سلطة لتلك الرئاسة إلا للمراقبة والمساءلة والمحاسبة. لكن أظهرت الممارسة، من خلال شخصية رئيس تلك السلطة منذ عام 1992 حتى اليوم، أنها شريك كامل أو مضارب في كل التسويات السياسية والمالية، حتى باتت بعض الأجيال اللبنانية غير قادرة على التعرّف على لبنان «الحالي» لأنه يختلف جذرياً عن البلد الذي ترعرعوا فيه. لا تتحرّك هذه الرئاسة عندما يعجز بعض النوّاب عن الحصول على أجوبة لأسئلة يطرحونها على الحكومة، إمّا لأن رئيسها أو وزراءه لا يكترثون بالإجابة أو لأن بعض الأجوبة لا تروق الأمين العام لمجلس الوزراء، فيرسلها إلى «عفن أدراجه»، والنتيجة أن السلطة التشريعية لم تحاسب خلال الـ20 سنة الماضية السلطة التنفيذية على إنفاق واستدانة مستمرة خارج الموازنة وما أقرّته.
الرئاسة الثالثة ومَن يشغلها «أمين» على الإرث الذي ورثه من أبيه ومن بعده مهندس أكثر الأزمات السياسية والمالية التي واجهتها البلاد، الذي لم يرفّ له جفن إلا لمسح بعض الدموع بعدما «خابت آماله». ومع ذلك، فإنّ الرئاسة الثالثة تتذرّع بعدم الإنجاز لكونها لم تنجح في ضم كل المجالس والهيئات إليها، ورأت أن وزيراً ارتكب خطيئة بالاستفسار عن عقد يُعدّ من أسرار الدولة، وهو عقد تنظيف الشوارع. ولا ضير إذا تهاوت الدولة ما دامت الرئاسة وطائفتها متمسكتين بامتيازات الطائف التي فُسّرت أنها لرئاسة الحكومة لا لمجلس الوزراء مجتمعاً.
يظهر الانهيار غير المعلن للدولة وسلطاتها وهيئاتها من خلال قضيتين رئيسيتين:
الأولى ذات أبعاد إقليمية ودولية، وهي قضيّة شهود الزور وكل ما يحيط بالمحكمة الدولية، والتي قد تقضي على آخر مقوّمات السلم الأهلي و«النظريات الكاذبة» حول التعايش. وقد تستطيع إسرائيل أن تنجز من خلال تلك المحكمة ما لم تنجزه في حرب 2006، وبالطبع لن تتمكن من ذلك لولا مشاركة أطراف محلية وعربية لم ولن تتحمّل وجود طرف من بيئتهم وصل إلى حد تحدّي إسرائيل وجبروتها لأنها تعوّدت وعوَّدت بعض الشعوب على روح انهزامية لتستمرّ فكرة أنّ كلّ العرب لا يقدرون على إسرائيل.
والثانية تتعلق بجدول أعمال جلسة الحكومة غداً ضمن سعي لاستصدار قانون بشأن شراكة القطاع العام مع القطاع الخاص. وهو مشروع عرض في صفحات عدّة بخط عريض، لكن يمكن اختزاله بصفحتين. نصٌ غامض وعام يكتنف في طياته ما هو أخطر مما مارسه فؤاد السنيورة في سنواته السوداء عبر تركيز كل المجالس والهيئات والسلطات به شخصياً. قانون الشراكة غامض بشأن معنى الشراكة، تمويلاً ومساهمةً وإنشاءً واستئجاراً واستثماراً. والأسوأ أنّ للعديد من الأطراف السياسيّة مفهومها في الشراكة الذي يختلف عن مفهوم الآخرين. ويندرج هذا التباين في الاستيعاب والفهم حتى ضمن الفريق الواحد. طرف واحد فقط له «رؤية وأهداف» (منذ عام 1993) يعني ما كتب ويعرف ما يريد، بينما الأطراف الأخرى يجمعها مزيج من التعالي وعدم الخبرة، فتكتفي باعتماد ردّة فعل على طرح ما من دون أخذ المبادرة، أو تقديم تصوّر ورؤية مع آليات تطبيقية في شأن عام ما، فكيف إذا كان الأمر مشروع قانون لشراكة يُراد منه وضع اليد على كل القطاعات الحياتية بديلاً للخصخصة قبل تنظيم القطاعات ليصبح بيعها مجزياً.
ورغم خطورة مشروع القانون المقترح، لم يبادر أحد من أطياف المعارضة إلى التواصل مع حلفائه لبحث الذهاب إلى المناقشة بقواسم مشتركة، وكأن العقم هو ما يجمع بين تلك الأطراف.
شهود الزور
قضية شهور الزور التي اصطُنعَتْ منذ 2005 لاتهام سوريا وسجن كبار الضباط ومواطنين آخرين، لتضمن نجاح الانقلاب على السلطات الأمنية والقضائية والإمساك بها وتوظيفها في الحد الأقصى، ها هي تعود الآن لتتّهم حزب الله وتركّز عليه لحشره في زوايا داخلية تافهة ودفعه، شاء أو أبى، ليكون طرفاً في صراع مذهبي بهدف تحويل جهوده عن الحدود.
هذه القضية، بغضّ النظر عن صوابية حزب اللّه في أسلوب التصدّي للمؤامرة التي تحاك ضدّه (وللموضوع تفصيل)، أضاءت مرة أخرى على أزمة موقع رئاسي معيّن وعلى تسلّط مراكز رئاسية أخرى للاستثمار حتى في قضية كهذه قد تجلب ويلات على الكيان لا أحد يعرف حدودها.
فالرئاسة الأولى تتصرف تجاه قضية شهود الزور والمحكمة الدولية كمَن يسير على البيض، كأن هذه القضية مماثلة للتعيينات الإدارية أو أي قضية محلية، لا قرارَ يُتّخذ فيها. ألم تستدرك الرئاسة الأولى أن هذه القضية وما قد يتبعها من مضاعفات قد تطيح الجمهورية ورئاستها وأنه لا مكان للرمادية بحجّة عدم إغضاب طرف سياسي على حساب طرف آخر؟
أما الرئاسة الثانية، فموقفها الخجول المتواضع في بعض العبارات أو التصريحات مثير للدهشة. ألا ترى أن ما يحصل في هذه القضية، وتآمر جهات وسلطات محلية أمنية وقضائية فيها، يتطلّب الدعوة إلى تأليف لجنة نيابية مستقلّة للتحقيق بشأن مَن موَّل وغطّى ووجَّه شهود الزور بهدف جرّ لبنان إلى ويلات ما لم يُنزع سلاح المقاومة؟ وأن تكون ذات حصانة وصدقية أكثر من السلطات القضائية. أليس بمقدور هذه السلطة حسم النقاش في الجهة المعنية بالاختصاص، وأن تبادر، بصفتها مصدر التشريع، الى خطوة تمنع الفتنة من أن تطل برأسها من جديد؟
نسي رئيس الحكومة أنّ ضحايا برج أبي حيدر سقطوا من الطرفين لا من طرف واحد
مشروع الشراكة يتضمّن ثغراً عدّة تطعن في صلب اتفاق الطائف والتوازن الذي أوجده
أمّا الرئاسة الثالثة، والمعنيّة الأولى بهذه القضية، فلم تأخذ أيّ مبادرة في تحريك مجلس الوزراء لإحالة القضية إلى المجلس العدلي أو لتأليف لجنة وزارية تدرس الجوانب القانونية للتضليل الذي حصل والذي جعل رئيس الحكومة شخصياً يوجّه اتهامه نحو سوريا، ثم زارها لاحقاً ويطالب اليوم بانتظار القرار الاتهامي «للبناء على مقتضاه». وكأنه، كأي طرف سياسي مناوئ لحزب الله وليس ابن الشهيد، غير معني جدياً بمعرفة مَن قتل والده، وأصبح الهاجس السياسي عنده الأهم. بل أكثر من ذلك، نسي أن الضحايا في برج أبي حيدر سقطوا من الطرفين لا من طرف واحد، فاتّجه لتقديم التعازي إلى طرف واحد فقط بدل التصرّف كما فعل ليلة الحادث كرئيس لحكومة لبنان. رضخ كالعادة لمَن وشى له بأن يأخذ أولوية زعامته المذهبية، ولو مع مَن اعتبرهم أخصام شارعه سابقاً لعلّه يأخذهم إلى عرينه. تغلّبت المذهبية حتى على كشف الحقيقة. هل هناك مَن يخبره أن هذه القضية والمحكمة الدولية قد تجعلان في لبنان حكومات زواريب وتنهي حكومة السلطة المركزية؟
قضيّة الشراكة مع القطاع الخاص
تخلّف بعض العقول خلال السنوات العشرين الماضية، الذي أدى إلى الانهيار السياسي وعدم نشوء دولة، هو نفسه التخلف الذي يحول دون إصلاح يذكر، وجعل الدولة فريسة لوحوش، كلٌّ يلتهم منها ولو لم يعد هناك سوى العظام. دين 65 مليار دولار أو أكثر لا يراه البعض مشكلة، حتى جزء من المعارضة انغمس في تفاصيل المناكفة السياسية اليومية وأصبح يرى همّه الأساسي في محاولة تأمين الحاجات الأساسية، شرط أن لا يكون ذلك على حساب نفوذه السياسي. فريق السلطة واضح، لكن التيار الوطني الحر يشكو من أنه يغرّد وحده ولا مَن يلاقيه، والطاقم السياسي للمقاومة لم يقتنع حتى الآن بأن أولوية المواجهة يمكن ألا تتناقض مع أولوية الإصلاح الداخلي أو تأخذ من دربها، وأن إمكان السير بخطين متوازيين يسيران إلى هدف واحد، جديّ. أمّا الطرف الرئيسي الثالث، أي كتلة التحرير والتنمية، ففي «عالم آخر» مختلف كليّاً، لكنها تصرّ على إقناع الرأي العام بأنها تقف الى جانب المعارضة في الشأن الحياتي والإصلاحي.
في هذه الظروف والمعطيات المتمثّلة بانهيار للدولة والسياسة والاقتصاد، يبقى الواقع المالي وما أنتجه من ثقة ولو مصطنعة، هو ما يمكن أن يُبنى عليه والاستفادة من الفائض النقدي لطرح مشروع الشراكة مع القطاع الخاص، وهو ما قد اعتمدته دول عدة وشرعت له تحت مبدأ زيادة فرص العمل ودفع الشركات الصغيرة المقاولة للمشاريع وعدم تحويل تلك الشراكة إلى امتيازات. أقرب تشبيه لهذه الممارسة هو المفارقة بين شراء الأصول واستثمارها إلى حين.
لكنّ في نص المشروع المطروح ثغراً عدة تطعن في صلب اتفاق الطائف والتوازن الذي أوجده. فهو يلغي دور الوزير وصلاحية مجلس الوزراء ويتخطى كل التشريعات والقوانين السابقة باعتبارها ملغاة كما ورد في جملة: (خلافاً لأي نص آخر) يتعلّق بأيّ قطاع. إضافةً إلى ذلك، فإن مشروع القانون يثبّت المجلس الأعلى للخصخصة في موقع سيترحّم الناس فيه على ما تمتّع به مجلس الإنماء والإعمار وسوليدير مجتمعين خارج أطر المراقبة. وشاءت الصدف أن يتألف هذا المجلس من رئيس الحكومة (سعد الحريري)، الأمين العام (زياد الحايك)، وزيرة المال (ريّا الحسن)، وزير العدل (إبراهيم نجّار) ووزير العمل (بطرس حرب)...
من هنا تكمن مخاطر المشروع الحالي الذي قد يكون «مطّاطاً» إلى درجة قد تصل شظاياه إلى كل المفاصل الاقتصادية والأملاك العامة والخاصة، بما فيها السياحة. علماً بأن أهم القطاعات المعنية بالشراكة هي احتكارية بامتياز، كما هي الحال مع قطاع الاتصالات الذي استردّته الدولة، فمارست الاحتكار على المواطن بدلاً من القطاع الخاص (يدرّ حوالى 1.5 مليار دولار، منها مليار دولار من قطاع الخلوي وحده)، وبالتالي تبرز خطورة وضع اليد لشركات أجنبية على مفاصل الحياة اليومية من كهرباء ومياه ونقل وضمان وصيانة واتصالات.
دور الرئاسة الأولى
سنوات مرّت وتمرّ مليئةً بالمناكفة بين طرفين لا ثقة بينهما، وتبعدهما السياسة حتى عن حاجات المواطن الحياتية. لذلك، يمكن الاستخلاص أن الواقع السياسي كما الواقع الاقتصادي ـــــ الاجتماعي ما زالا بسلبياتهما قائمين على إيجابية الواقع المالي ـــــ المصرفي. وفي المستقبل القريب، إمّا أن تمتص الوقائع السلبية الواقع الإيجابي نحوها وتؤدي إلى انهيار محتّم، أو ينهض الواقع المالي بالاقتصاد والمجتمع. وهذا فيه خيار ودور رئيسيّ لرئيس الجمهورية.
لذلك، قد يكون مفيداً التحرر من روتينية بعض جلسات الحكومة والعمل على إنشاء مجلس وزاري مصغّر (لجنة وزارية) يتضمن الوزراء التقنيين المعنيين من وزراء للمال والاقتصاد والكهرباء والمياه والاتصالات والصناعة والزراعة والسياحة، يجتمع فردياً أو مجتمعاً مع فريق خبراء تقنيين في مجالات الوزارات المعنية لوضع خطة متكاملة للسنوات الثلاث المقبلة مع آلياتها التطبيقية والميزانيات المطلوبة خلال 3 أشهر وطرحها على مجلس الوزراء الموسّع. هذه الخطة يجب أن تفصّل كميّة الاستثمارات المطلوبة في القطاعات المختلفة، كالكهرباء وسدود المياه والنقل والبنية التحتية، والجدوى المالية للدولة وماليتها واقتصادها من الاستثمار فيها. كذلك يجب أن توضّح هذه الخطة بالأرقام الجدوى من وقف العجز في الموازنة من خلال تلك الاستثمارات، ووضع جدول إحصائي، بما يترتب على تلك الاستثمارات من مضاعفات على مالية الدولة وإنفاقها الجاري ومحاولة التخفيف عنها باللجوء إلى تمويل المشاريع المقترحة من القطاع الخاص القائم على مخاطرة تلك المشاريع نفسها، لا على ضمانة الدولة اللبنانية أو رفع الأكلاف على مديونيتها.
إضافة إلى ذلك، يدرس مجلس الوزراء المصغّر مع الخبراء التقنيين التفاصيل الأخرى الدقيقة المرتبطة بخفض الإنفاق وزيادة موارد الدولة (وهي عديدة عند وجود القرار السياسي) وآليات التفاوض مع القطاع المصرفي لإعادة هيكلة المالية العامة. هذه الخطة يجب أن تُقرّ بالتزامن والتعاون مع إقرار موازنة 2010 أو بعدها.
طبعاً الشيطان يكمن في التفاصيل، لكن إذا ما توافرت النيّة الطيّبة واستُوعِب أن إنجاز ما ذُكر هو ربح ـــــ ربح (Win - Win) للجميع، وليس وارداً الدخول في معركة تسجيل نقاط، والعمل على بناء الثقة بين ممثلي الأطراف برعاية رئيس الجمهورية، يمكن عندها التوفيق بين تضارب الآراء بشأن بعض الأمور، كالتضارب في الصلاحيات ودستورية آليات التنفيذ. وهنا يكمن دور رئيس الجمهورية، ولن يقتنع أحد إذا انتهى العهد بأنه لم يستطع أن يفعل أكثر ممّا فعل. لديه يدان فليضرب بهما على الطاولة، حتى لو انتهى إلى «اللهمّ إني بلّغت».
وحتى لا يضيع الهدف، المتمثّل في النهوض بالدولة، فإن الأهم لهذه الخطة ولعمل الفريق والطاقم السياسي هو عدم تحميل الطبقات الدنيا عبء كل الأرقام المخيفة حالياً، ولو كان المطلوب اتخاذ خطوات جذرية تمنع انهياراً يطيح الجميع.
تعليقات: