بين الاستعجال والتريث: هل تتجدد الحرب على لبنان؟



 

محمد مهدي برجاوي-

لم يكن قرار الحكومة اللبنانية بطرح شعار «حصرية السلاح» حدثًا عابرًا في السياسة الداخلية، بل خطوة أعادت النقاش إلى مربّعه الأول: مستقبل سلاح حزب الله. ومع تمسّك الحزب برفض أي مسّ بهذا السلاح، بدا واضحًا أن الصراع لم يعد فقط سياسيًا داخليًا، بل بات يتقاطع مع حسابات إقليمية أوسع، وفي مقدمتها قرار إسرائيل بشأن احتمالية تجدد الحرب على لبنان.

من جانبها، تبدو إسرائيل عالقة بين حدّين متناقضين: الأول باستعجال الحسم خوفًا من أن يستعيد الحزب عافيته بسرعة، ويحوّل الضربات الأخيرة إلى فرصة لتعزيز قوته؛ والثاني يفرض التريث خشية أن تؤدي أي حرب جديدة إلى قلب المعادلات وإعادة الصواريخ إلى تل أبيب، بما يطيح بالسردية التي يروّج لها نتنياهو عن إنهاء خطر الحزب.

وبين هذين الحدّين، تتزايد الأسئلة في لبنان: هل يشكّل شعار «حصرية السلاح» بداية مرحلة جديدة من المواجهة الداخلية والخارجية معًا؟ أم أنه مجرّد فصل إضافي في مسار مأزوم، تبقى فيه احتمالية الحرب قائمة، ولكنّ توقيتها رهنٌ بحسابات إسرائيلية معقدة؟
منذ انتهاء الحرب الأخيرة، يتصرف العقل الإسرائيلي على قاعدة أنّ الفرصة التي سنحت لتوجيه ضربات قاسية إلى حزب الله قد لا تتكرر مرة أخرى. ذلك أنه رغم الجراح العميقة التي أصابت الحزب، إلا أنّ إسرائيل تدرك أنّ الضربة القاضية لم تتحقق. وقد علّمتها تجربة أربعة عقود أنّ حزب الله ليس حركة يمكن إضعافها إلى حدّ الانهيار، ولا هو شبيه بمنظمة التحرير التي أخرجت من بيروت عام 1982، بل هو تنظيم عقائدي شديد القدرة على التعلّم والتكيّف.

وهذا العنصر يزيد من قلق إسرائيل. لأن كل يوم إضافي يسمح للحزب بإعادة ترميم قدراته، وبناء ما تهدّم، واستنباط طرق جديدة لمواجهة التهديدات. ولأن الحزب يميل إلى تحويل كل انتكاسةٍ أو تهديد إلى فرصة لاكتساب خبرة أكبر ومراكمة عناصر قوة إضافية، فإنّ تل أبيب ترى أنّ «النافذة الزمنية» المتاحة لها الآن قد تنغلق سريعًا.

من هنا ينبع الاستعجال الإسرائيلي: فكرة أنّ الحسم يجب أن يُنجَز قبل أن يكمل الحزب لملمة صفوفه ويستعيد قدراته. لأن تقدير العدو الأمني يرى أنّ الضربات التي أصابت القيادة والبنية التحتية للحزب لن تبقى فعالة لوقت طويل، وأنّ أي تأخير يمنح الحزب فرصة استعادة زمام المبادرة.

هذا الاستعجال ليس كافيًا لدفع إسرائيل نحو الحرب. فالحسابات السياسية والعسكرية في تل أبيب أكثر تعقيدًا مما يبدو. صحيح أنّ إسرائيل خرجت من المواجهة الأخيرة بقدرٍ من التفوق النسبي وحرية حركة أوسع، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ خوض حرب جديدة سيكون بالضرورة في صالحها.

في الداخل الإسرائيلي، يروّج نتنياهو لسردية مفادها أنّه استطاع «تحييد خطر حزب الله» أو على الأقل تقليصه إلى الحدّ الأدنى. أي مواجهة جديدة تحمل في طياتها خطر تقويض هذه السردية بسرعة، إذ يكفي أن تسقط صواريخ على تل أبيب أو مدن الوسط لتنهار صورة «الانتصار» وتتحول إلى عبء سياسي على الحكومة.

في العامل الإقليمي والدولي، تعلم إسرائيل أنّ أي حرب واسعة على لبنان قد تعيد خلط الأوراق مع الولايات المتحدة ومع العواصم العربية التي تشهد مسار تطبيع متفاوت. كما إن التغيرات في سوريا والعراق واليمن تجعل ميدان الحرب أكثر تشابكًا، واحتمالات المفاجآت أعلى مما كانت عليه في السابق. وهذا، ما يجعل التريث خيارًا غير ثانوي، بل ضرورة سياسية وعسكرية، ما دامت إسرائيل تستثمر مكتسبات الحرب الأخيرة، دون المجازفة بخسارتها في مواجهة جديدة قد تكون مكلفة وغير محسوبة النتائج.

في الداخل اللبناني، يحتدم النقاش حول مشروع «حصرية السلاح»، حيث يتصرف خصوم حزب الله على استغلال فرصة تاريخية للتخلص منه نهائياً. ويتهامس هؤلاء عما إذا كان العدو سيدعم هذه الجهود عبر القيام بخطوات ملموسة، مثل الانسحاب من النقاط الخمس المحتلة في الجنوب، أو وقف الاعتداءات المتكررة والاغتيالات والغارات الجوية؟ انطلاقاً من الاعتقاد بأن هذه الإجراءات تسحب الذرائع من يد الحزب وتمنح الحكومة قوة لفرض قرارها.

قد يبدو هذا الخيار منطقيًا، ولكن إسرائيل لا تفكر بهذه الطريقة. فالغطرسة الإسرائيلية لا تسمح بهكذا «تنازلات»، وهي تقول إنّها تصنع «أمنها» بيديها، لا عبر أي معاهدات أو ترتيبات أمنية. لذلك فهي تفضّل تكريس معادلة التفوق والهيمنة، حتى لو كانت النتيجة المباشرة أن تمنح حزب الله نقطة قوة إضافية في النقاش الداخلي. فالحزب يطرح السؤال البديهي: كيف يُطلب منه التخلي عن سلاحه فيما العدو لا يزال يحتل وينتهك ويضرب؟

بهذا المعنى، تعيد إسرائيل إنتاج المعادلة نفسها: إصرار على إظهار السيطرة واليد العليا، ولو على حساب منح حزب الله المزيد من الأسباب والشرعية في التمسك بسلاحه. إنها سياسة تقوم على الإذلال وردع الخصوم، ضاربةً عرض الحائط القرار 1701 أو أي مسار ديبلوماسي يمكن أن يقود إلى استقرار حقيقي.

في مقابل الضغوط الإسرائيلية والداخلية، يبدو أنّ حزب الله يعتمد مقاربة جديدة لإعادة بناء معادلات الردع، تقوم على العودة إلى المجهول. فالحزب بات ممتنعًا عن الكلام العلني حول قدراته العسكرية، وتوقف عن استعراض نوعية السلاح أو الإعلان عن عمليات إعادة البناء، مفضّلًا الصمت والغموض على الإفصاح والتباهي.

هذا النهج يعيد إلى الأذهان المرحلة الممتدة منذ تأسيس الحزب حتى حرب تموز 2006، حيث كانت السرية التامة والحساسية الأمنية المطلقة من أبرز سمات عمله. يومها، كان الغموض نفسه مصدر قوة، إذ ترك العدو في حالة شك دائم حول ما يملكه الحزب، ما جعل المخيلة الإسرائيلية تميل دائمًا إلى افتراض الأسوأ.

اليوم، يبدو أنّ الحزب يسعى إلى استعادة هذا الغموض البنّاء، إذ يتحول إلى أداة ردع بحد ذاته: فالتكتم على القدرات وخطط التعافي يعيد للحزب قدرة على المفاجأة، ويجعل إسرائيل عاجزة عن التقييم بدقة لحجم التهديد. ويعيد حزب الله صياغة ردعه عبر العودة إلى الغموض البنّاء: صمت مدروس يعيد إنتاج حالة الشك لدى العدو.

ولعلّ أكثر ما يعبّر عن هذه المقاربة هو ما قاله مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة: «نحن حزب قتال، ولكن حزب رويةٍ بالقتال». فالحزب اليوم لا يتخلى عن سلاحه ولا عن مشروعه، ولكنه يقدّم نفسه كتنظيم أكثر ترويًا وسرية، لا يُستَفز ولا يجانب خوض معركة حسب توقيت الآخرين، فيجمع بين الاستعداد الدائم وبين الصبر الإستراتيجي، ليعيد صياغة الردع من موقع الظل لا من منصة العلن.

بين الاستعجال الإسرائيلي بالحسم خوفًا من تعافي حزب الله، والتريث المحكوم بالحسابات السياسية والعسكرية، يبقى قرار الحرب على لبنان معلقًا في دائرة المجهول. فتل أبيب ترى في كل يوم يمر فرصة ضائعة لإضعاف الحزب، ولكنها تدرك في الوقت نفسه أن أي مواجهة جديدة قد تعيد إطلاق الصواريخ على تل أبيب، وتُفشل سردية «النصر» التي يسوّقها نتنياهو.

هكذا، يقف لبنان على حافة مواجهة جديدة، في معادلة شديدة الحساسية: إسرائيل لا تثق بالوقت وتخشى المستقبل، وحزب الله يراهن على الزمن كسلاح سريّ بحد ذاته.

موقع التيار - قراءة الخبر من المصدر



كل المصادر

جريدة الأخبارروسيا اليومبي بي سيموقع التيارالوكالة الوطنية للإعلامقناة المنارموقع الضاحية الجنوبيةمجلة سيدتيGreenAreaصيدا أون لاينالجزيرةاللواءصيدا تي فيakhbar4allأرب حظهافينغتون بوستثقف نفسك24.aeقناة العالم الإخباريةسيدر نيوزموقع القوات اللبنانيةأنا أصدق العلمسبوتنيك

النشرة المستمرة