اقتفاء الأثر



 

ابراهيم الأمين -

لم يكن حسن عبد الكريم نصرالله من عالم آخر. حكايته الشخصية، هي نفسها التي تخص أبناء جيل تناوبت على وعيه ثلاثة عقود تلت الكارثة الإنسانية الكبرى بقيام إسرائيل. وُلد بعد عقد من النكبة الكبرى، في كنف عائلة من بيئة هجرها احتلال فلسطين، لينطلق بعد عقد آخر، باحثاً عن نفسه في خلاص ديني، ليجد نفسه، في قلب المواجهة مطلع عقده الثالث.

حسن، الشاب، الذي بحث عن سبيل مناسب للخروج من دائرة القهر الأولى، لم يختر تجارة الأهل. ولا سار خلف أقران، أخذتهم الحرب على حين غرة إلى حيث الموت المفتوح من دون سؤال عن المآلات الكبرى. وخلال سنوات نموّه السياسي الأول، فهم أنّ مواجهة الظلم والقهر، تحتاج إلى علم حقيقي. لكنه، لم يكن أصلاً في وضع يختار فيه علوماً حديثة كالتي قصدها آخرون، سواء كانوا فقراء أو من عائلات ميسورة. بل تكشف الأيام، أنّه كان يلحق بفطرة ليس معلوماً مصدرها الحقيقي. وكل التتبع لسيرته منذ صار عمره عشر سنوات، ليست كافية للإجابة عن السؤال الأهم، حول ما دفعه نحو العلوم الدينية.

لكنّ الشاب الذي غزاه الشيب، وهو يبحث عن سبل إكمال دروسه الدينية، وجد نفسه يسير بوعي، إلى حيث يقوده أثر الباحثين في علوم الدين. وعندما حط رحاله للمرة الأولى في النجف، لم يكن يخطر في باله، أنّه يواجه الامتحان الأول. كان عليه إظهار قدرته على تجاوز اختبار مطابقة العلوم المقصودة بأمور الحاضر. وكل الإيمان الذي سكنه حتى يوم استشهاده، وقناعته الكلية بوجود الله، والحياة الأخرى، لم تكن حيلة له كي يهرب من هذا الاختبار. بل هو اختار، عن وعي كامل، أن يكون إلى جانب شباب يفكرون في أحوال بلادهم وناسهم، ملتزماً مساراً آخر في رحلة اقتفاء الأثر.

لا علم لي، بمصدر فهمه لموقعه بين تلامذة العلوم الدينية، كونه من سلالة النبي وأهل بيته. لكن من عاصره في سنوات النجف القليلة، يروي أنه لم يكن متهيباً لالتزام موجبات العمامة والجبة واللباس الجديد. كان يعرف، أنه أمام مستجد سيؤثر في أشياء كثيرة في حياته. وهو الذي لم ينزع عنه الثوب الديني، إلا حيث يكون مضطراً، ومع ذلك، ظل يختبر ذاته في الاحتفاظ بكامل سلوكه الأصلي، ولو أوجبت التحديات عليه التخفي، عن أعداء أو محبّين. وفي سيرة انخراطه في العمل العام، استمرت لنحو خمسة عقود، عاش معظمها كمناضل يرتقي سريعاً سلّم المسؤوليات، ليكون أول قائد سياسي، وجنرال عسكري على هيئة رجل دين، ومسؤول عن إدارة مؤسسة تهتم لأحوال ملايين كثيرة من ناسه المنتشرين في كل الأمكنة.

ورغم كل ذلك، فإن حنينه إلى حلمه الأول، بسلوك درب العلماء، كان يبحث عنه في أوقات يسرقها في مناسبات، وظروف، تتيح له التصرف بطريقة مختلفة. ومع ذلك، قد يكون هو رجل الدين الوحيد، من آلاف، يضطر إلى المراعاة كثيراً، ويحتاط في كل كلمة يقولها من على منبر العالم الديني، فقط، لأنّ اقتفاء الأثر الذي اختاره، وأراد للناس أن تلحق به في دربه الطويل، أوجب عليه مرة جديدة، عدم الذهاب بعيداً، في الحديث عمّا يحب من عناوين وأبحاث وأفكار...

لكن فكرة اقتفاء الأثر عند رجل مثل نصرالله، لم تعد ملكه فقط. بل صارت مع الوقت، فصلاً في حكاية طويلة، في شؤون الناس والحياة والتعبّد أيضاً. لكن صورته التي يعرفها الناس جيداً، بقيت، تلك التي تسمح لرجل، تسكنه هواجس العلاقة بالله كل الوقت، أن يبتعد كثيراً عن حرفة الناسك، وما أُتيح له من وقت، فيه مجال للقراءة، كان مناسبة ليعود إلى كتبه الدينية الأحبّ إلى قلبه وعقله، يفعل ذلك بصمت، ولا يشعر من حوله بشغفه الكبير، وعندما يعود إلى الناس خطيباً، يجهد قليلون في البحث عن الجديد في لغته، وعن المفردات الإضافية التي احتلت خطابه، وعن طريقة فهمه لعالم الغيب، وهو المسكون أيضاً، بعلوم الواقع وعلميته.

رحل السيد في لحظة تناسب كل تاريخه الشخصي. ورحل كما كان يرغب، فارساً يشهر سيفه في وجه جزّار العصر، واثقاً من قدرته على جعل موته، حقيقة يلفها الغموض. ما جعل كثيرين، يحلمون بأنّه سيطل من بين الجموع رافعاً يده، وهاتفاً بالناس، أن قوموا، حيّ على الجهاد...

قلة يجب أن تكون جريئة للتفكير في كتابة سيرة منصفة لهذا القائد، وكثرة، يجب أن تمنع أحباء أو أعداء عن المحاولة الناقصة. لكن الجمع كله، يقف قبالة صوره المنتشرة في كل الأمكنة، وصدى صوته لا يتوقف عن اقتحام الآذان أينما حل. وهو جمع، يُتاح له أيضاً، أن يفعل ما فعله بطلهم، وأن يسير الكل مجدداً، في رحلة اقتفاء الأثر. والأثر هنا، هو أثره، إنساناً لم تتعبه الدنيا يوماً لتقعده، ولم يهرب من تحديات الحياة، ولم يخف من لحظة المواجهة، فظل يسير بخطى ثابتة، نحو مصير بدا محتوماً!.

هو حسن عبد الكريم، وهو السيد حسن، وهو القائد حسن، وهو واحد من قلة، يُتاح لك أن تتذكره كل الوقت، ليس لتبتسم لحظك أن عاشيته عن قرب، بل، لأنّ الذكريات معه وعنه، هي أشبه بدليل، يجعلك واثقاً من السير بخطى ثابتة إلى مصدر النور. وهو يترك لك، أن تختار ما تراه مناسباً، فلا مشكلة إن كان الصفح عندك أقل من الحزم في مقابل أشدّاء، ولا مشكلة لك إن كنت متسامحاً، حيث ينتظر الآخرون منك القسوة مهابة وخوفاً. لكن، دليله الذي تركه بين يديك، ليس في الحقيقة، سوى الأثر الذي تركه بشهادته السريالية، هو الأثر، الذي وجب علينا اقتفاؤه إلى يوم الدين!

موقع التيار - قراءة الخبر من المصدر



كل المصادر

جريدة الأخبارروسيا اليومبي بي سيموقع التيارالوكالة الوطنية للإعلامقناة المنارموقع الضاحية الجنوبيةمجلة سيدتيGreenAreaصيدا أون لاينالجزيرةاللواءصيدا تي فيakhbar4allأرب حظهافينغتون بوستثقف نفسك24.aeقناة العالم الإخباريةسيدر نيوزموقع القوات اللبنانيةأنا أصدق العلمسبوتنيك

النشرة المستمرة