الدكتور نهاد مرعي متوسطاً صديقيه د يوسف غزاوي ونبيل علي ديب عواضة في باريس
كثيرة هي مآسي اللبنانيّين منذ زمن طويل، لكنّ تفاقمها زاد في هذا الوقت الذي لا يُمكن وصفه مهما استعملنا من نعوت قذرة وسيئة ومقيتة. نحن جيل الحرب الأهليّة اللبنانيّة النتنة المميتة، فمجرّد تذكّرها أُصاب برهاب عتمة القبر لكثرة ما رأيناه من آلام وقتلى ومعاناة.. تفرّق أصدقاء الطفولة في أصقاع الأرض قاطبة، منهم من عاد بعد غياب، ومنهم من انقطعت أخباره نهائيّاً، ومنهم من استشهد أو قُتِلَ في الحرب، ومنهم من التقيناه في الغربة بعد غياب طويل عن طريق الصدفة المضحكة المبكية كما حصل مع صديقي الدكتور نهاد مرعي حيث كنا نقف في الحيّ اللاتيني الباريسي، وكلّ يتحدّث مع رفيق له يقف قبالته، كان نهاد يقف خلفي وأنا أقف خلفه دون أن يعرف كلانا بوجود الآخر، إلا أنّ لهجتنا الخياميّة جعلتنا نلتفتُ في الوقت نفسه سويّة لمعرفة من يتكلّم بتلك اللهجة، وأين؟ في الحيّ اللاتينيّ المشهور. كانت مفاجأة كبرى لكلينا؛ تعانقنا وتبادلنا أخبار التباعد القسريّ. تعدّدت اللقاءات فيما بعد، وكيف لا! وأنّ نهاداً زميل طفولتي وقريتي وصفّي المدرسيّ. سرد لي عذاباته في الغربة وتعبه منذ ترك الخيام في السبعينيّات باتجاه الكويت كي يعمل ويدّخر مالاً يساعده في دراسته في فرنسا. واصل نهاد تعبه وتحقيق حلمه بالسفر والحصول على دكتوراه في الصيدلة من إحدى جامعات فرنسا. كان نهاد من التلامذة الأذكياء أثناء دراسته الابتدائيّة والمتوسطّة والثانويّة، وكان طموحاً، ساعده هذا الشيء في تحقيق حلمه في دراسته المعمّقة في مجال الصيدلة والطبّ. لم يحصل نهاد على منحة كما الكثير من الطلاب اللبنانيّين حينها (الدولة اللبنانيّة، السفارات، مؤسّسة الحريري...) بل كدّ وعمِل وتعب ليصل إلى مبتغاه. تزوّج وأسّس عائلة كريمة، أحبّها، وأخلص لها حتى الرمق الأخير. حاول في التسعينيّات العودة إلى لبنان مصطحباً عائلته الصغيرة، افتتح صيدليّة، لكنّ الأمر لم يسير كما يرام. لم يستطع الدخول إلى الجامعة اللبنانيّة ليكون واحداً من أساتذتها المرموقين بسبب معوقات سياسيّة ولعبة الواسطة التي يشتهر فيها هذا البلد. كان يُمكن لنهاد، المتفوّق والناجح، أن يكون استاذاً ناجحاً في الجامعة، ويفيد طلابها كثيراً لو تسنت له فرصة التعليم فيها. ازدادت الصعوبات المختلفة، فلم يكن أمامه سوى حزم حقائبه والعودة إلى بلده الثاني بالتبنّي، فرنسا.
الدكتور نهاد سليل عائلة متعلّمة مثقّفة، والده مربّي الأجيال التسعينيّ الأستاذ نايف مرعي (أطال الله بعمره). أخوه الدكتور الطبيب النسائيّ فؤاد مرعي. وقد قدّمت العائلة شهداء أبرياء في أكثر من مناسبة وحدث.
حين التقيتُ نهاداً للمرّة الأخيرة عام ٢٠١٨ في باريس، في عشاء عائليّ عند الصديق المشترك نبيل عواضة، أخبرني بأنّه سيتقاعد بعد عام، وستكون فرصته لزيارة لبنان كثيراً بعد زياراته المتقطّعة للوطن ومكان ولادته. كان يعشق الخيام كثيراً، وهو الذي تربّى في ربوعها ودردارتها، وسبح في مياهها، ولعب تحت أشجارها وعلى عشبها وتحت أزرق سمائها، وتغذّى من تينها وعناقيد عنبها وعرانيسها وخضرتها وثمار مرجها. كان نهاد يُمنّن النفس بالتقاعد وإعادة شيء من ذكرى الطفولة، لكنّ الموت خطفه وخطف آمالنا باللقاء حيث ترعرعنا ولعبنا صغاراً وضحكنا. لكنّه الموت الذي أبكانا ، ومحا من دفاترنا مواضيع الإنشاء وتعقيدات الرياضيات والهندسة وتركيب الجُمل المفيدة في وطن أحببناه فبادلنا القهر والفساد والموت... وطن يقتلنا على مهل وعلى قهرٍ....
وداعاً صديقي دكتور نهاد مرعي
دكتور يوسف غزاوي
فقيد الخيام الغالي الدكتور نهاد مرعي
تعليقات: