المربّي الأستاذ نايف مرعي
تجربة تأسيسية أولى في مدرسة كفرشوبا الرسمية
كانت سهرة الأستاذ نايف مرعي الأولى في ضيافة مختار كفرشوبا محمد حمدان من السهرات الممتعة التي بقي لها في البال ذكرى جميلة وحنين الى ماض كان غنيا بالبساطة وحياة المزارعين والرعاة والحرفيين الطيبين الذين يتوقون بلهفة إلى تعليم أبنائهم ورفع مستواهم المعرفي لعل المستقبل يفتح أمامهم أبواب الوعي والخير والرزق وتحسين الأحوال في قرى ومزارع ودساكر موارد العيش فيها ضيفة وشحيحة لذلك كان هؤلاء البسطاء الطيبون يهتمون إهتماما شديدا بالمعلم لأنهم يعتبرونه صلة الوصل بين أولادهم والمستقبل الزاهر والواعد.
في صباح اليوم التالي قام المختار وبعض فعاليات كفرشوبا بتأمين مبنى عاينه الأستاذ نايف علي مرعي وأبدى موافقته على أنه ملائم لأن يكون مبنى المدرسة فتم استئجاره من صاحبه على وجه السرعة وباشر الأستاذ الوافد حديثا بتسجيل الأولاد الذين وصل عددهم إلى 40 تلميذ وكان هو الأستاذ الوحيد لهم،وبناء على تقييم أولي قام بتقسيمهم إلى أربعة فصول دراسية،ولكي يتمكن من ملء وقت طلاب الفصول الأربعة ابتدع الأستاذ البرنامج التالي:
1-فصلين لديهما حصة رياضة
2-فصل لديه حصة كتابة وخط
3-فصل يشرح له درس جديد ويسمع الدرس السابق
وبمرور مدة زمنية بسيطة إتضح للأستاذ نايف من هم الطلاب الأكثر جدية والأكثر كفاءة ومتابعة في كافة الفصول حيث كان يعلمهم كل المواد الدراسية،عندها تقدم بطلب إلى وزارة التربية أن تسمح لهؤلاء الطلاب بالتقدم إلى إمتحانات الشهادة الإبتدائية (السرتفيكا)فجاء الرد على طلبه بالقبول وتقدم يومها14طالبا في العام الدراسي 1949-1950وبعون الله تمكنوا جميعا من النجاح الأمر الذي شكل مفاجأة للأهالي حيث عمت الفرحة كفرشوبا وبدأت الإحتفالات وتبادل التهاني بالنجاح وتوزيع الحلوى خاصة أن شهادة السرتفيكا كانت تخول حاملها أن يتقدم إلى وظائف كثيرة في الدولة الفتية الحديثة الإستقلال حيث تتوفر فيها وظائف كثيرة في الوزارات والمؤسسات وسلك الجيش والأمن العام ووزارة التربية وغيرها،وقد توظف من الخريجين الجدد من شباب كفرشوبا معلمين في مدرسة بلدتهم كان منهم إبراهيم ذياب الذي عين مديرا للمدرسة بدل الأستاذ نايف يعاونه أساتذة من آل نبعة وقصب وعبدالله وحمدان وبقي الأستاذ نايف مرعي في كفرشوبا مدة خمسة أشهر حيث سكن في منزل سليم سعيد بداية ثم إنتقل إلى منزل حسن عبدالله خبيز وتعرف خلال إقامته وخلال تدريسه على أهالي البلدة خاصة وأهالي منطقة العرقوب عامة الذين أحبوه وكرموه وقدروا له عاليا الخدمة الجليلة والتضحية التي تفضل بها عليهم عن طيب خاطر ومن روح رسالية معطاءة وكان الأستاذ نايف كلما إشتاق إلى الأهل والأحبة في الخيام يتوجه إليهم بعد الظهر عندما ينهي تدريس طلابه حيث يسير وحيدا في منحدرات جبل الشيخ الوعرة مارا بكفر حمام ومسلما على المزارعين الذين كانوا يعملون في حقولهم ويقطفون ثمار مواسمهم ويشاهد الحصادين والدراسين في بيادرهم وكان يستمع بشغف إلى زقزقزة العصافير المتنقلة بين أفنان الشجر ويحيي الرعاة المنتشرين في جرود جبل الشيخ وينظر بعينيه بشوق وحنين إلى منظر غياب الشمس خلف الخيام حيث يرتسم الشفق الأحمر القاني وحين يصل إلى ضفة نهر الحاصباني يخلع ملابسه ويعبر النهر بفرح العائد إلى لقاء الأحبة ثم يجفف جسده ويعاود لباس ثيابه ويهرول مسرعا نحو الخيام قاطعا ما لا يقل عن إثني عشر كيلومتر ويصل غالبا إلى الخيام وقت الغروب فيستقبله الأهل بالترحاب وعناق الشوق واللهفة ويستحم ثم يجلس مرتاحا في السهرة يحدث الأهل ومن يلتقي من الرفاق والأحبة عن تجربة التعليم في كفرشوبا وعن أهلها الفرحين والمهتمين بالأستاذ الضيف كما يسأل عن حال وأحوال الخيام والخياميين في غيبته،وتعد له والدته زوادة العودة الصباحية وتغسل له ملابسه ليعود مع فجر اليوم التالي كما جاء إلى كفرشوبا ويكون على رأس صفه عند الساعة الثامنة صباحا.
لقد كانت التجارة وحركة الأسواق الأسبوعية المتنقلة بين القرى تمثل صلة الوصل والتواصل بين أهالي القرى المتجاورة والبعيدة نسبيا ثم لعبت الثكنات العسكرية أداة تواصل إضافية نتيجة لقاء الجنود الذين كانوا يأتون من هذه القرى والبلدات ويخدمون في ثكنات المنطقة التي أسسها الفرنسيون في ثلاثينيات القرن الماضي في مرجعيون والخيام (عام1932)وجاءت مرحلة تأسيس المدارس الرسمية لتؤمن شبكة تواصل وتعارف إجتماعي ثالثة لعبت فيها الخيام دورا محوريا لأنها كانت سباقة في مجال التعليم الرسمي كما سبق وذكرنا في حلقات سابقة من هذه السلسلة حيث قام ابناؤها بالتعليم في معظم مدارس المنطقة.وبعد تلك المرحلة جاءت وسائل النقل الحديثة لتعزز التواصل بين الناس وتلتها الأحزاب الوطنية والنشاط الرياضي والكشفي وغيرها.
أنهى الأستاذ نايف علي مرعي عمله التأسيسي في مدرسة كفرشوبا في مرحلة لم تكن الطرقات قد عبدت بعد بل كانت هناك طريق ترابية تم شقها عام1945وبقيت على هذا الحال حتى العام1950وكان المفتش التربوي المعتمد من قبل وزارة التربية إلياس الخوري من بلدة حاصبيا يتنقل بين مدارس المنطقة على صهوة فرسه حيث يطلع من القيمين على تلك المدارس على سير العمل التربوي ويرفع تقاريره وتوصياته إلى وزارة التربية في تلك المرحلة.
العودة إلى الخيام
بعد عودة الأستاذ نايف علي مرعي من كفرشوبا إلى الخيام بسنوات قليلة علم أيضا في كفرشوبا استاذان خياميان هما الأخوين حسين ومحمد إبراهيم مهنا وكانا يعلمان اللغة الفرنسية لأنهما إستفادا من والدتهما الأرجنتينية التي كانت تجيد اللغة الإسبنيولية وكانت حريصة على تعليم أولادها لغتها الأم منذ فترة طفولتهم وهذه قصة سنسلط الضوء عليها بالتفصيل عندما سنتحدث عن تاريخ الإغتراب في الخيام وتأثيره على التجربة الإجتماعية فيها.
كان لا يوجد في الخيام عام1950غير مدرسة واحدة هي مدرسة البركة التي صارت اليوم مكتبة عامة وكان قد عاد إليها الأستاذ نايف ليدرس إلى جانب زملائه الأساتذة وعندما ضاقت فصول المدرسة الوحيدة على إستيعاب الزيادة التي حصلت في عدد الطلاب تم استئجار بيت السيد محمود زلزلة المجاور للبركة حيث تم الإستفادة من فصلين دراسيين فيه ثم تلا ذلك اسئجار منزل حسن الحاج صالح حسان المجاور لبيت الشيخ خليل نصرالله حيث علم الأستاذ نايف مرعي مدة ثلاث سنوات عانى خلالها من ضغط في ساعات التدريس اليومي إضافة لوصول عدد طلاب الصف الواحد إلى70طالب الأمر الذي كان يضطره أحيانا لتدريسهم يوم الجمعة الذي كان يمثل أحد أيام العطلة الرسمية الأسبوعية وكان يتأخر في التدريس إلى فترات الليل فيضطر إلى تعليم طلابه على ضوء اللوكس لأن الكهرباء لم تكن قد وصلت بعد إلى الخيام ولشدة الضغط في الحاجة إلى مدرسين تم إستقدام إثنا عشر مدرسا منهم(نجيب مسعد-خليل مجدلاني-علي مقلد-ذيب درويش وإيلي حنا) وبناء على طلب الأستاذ نايف قام الأستاذ علي عبدالله بتعيينه أستاذا للفنون والأنشطة الكشفية والرياضية في المدرسة فكان الأستاذ نايف يجمع ثلاث فصول دفعة واحدة ويدرسهم الحركات السويدية وألعاب القوى ورمي الكلة والرمح إضافة لتعليمهم الموسيقى بناء على الخبرات التي كان قد إكتسبها في مدرسة جويا.وفي تلك المرحلة بدأ في الخيام تشكيل الفرق الرياضية وتنظيم المباريات بين الفرق.كما أنه في تلك المرحلة حصلت أحداث غنية بالمستجدات في تجربة الأستاذ نايف مرعي على المستوى الكشفي نترك موضوع التوسع فيها إلى المقالات التي سنتناول فيها لاحقا إن شاء الله تاريخ نشوء الحركة الكشفية والرياضية في الخيام.
ومن التلاميذ الذين درسهم الأستاذ نايف في تلك المرحلةكان(عبد الأمير أسعد مهنا- يوسف عطوي- حسين سعيد مهنا-ن عيم مهنا- مالك نعيم مهنا- علي عبد الحسن عواضة- كامل خشيش- فارس غورو- إبراهيم ضاوي- عبد الحسن فاعور- غازي ضاوي- إبراهيم عواضة وعلي أمين عياش) كانت أعمار هؤلاء الطلاب في تلك المرحلة تتراوح بين 15و17سنة وقد حصلوا جميعا في تلك المرحلة على شهادة السرتفيكا.
لقد شكلت تلك الفترة مرحلة ضغط كبيرة على الأستاذ الشاب نايف علي مرعي المتحمس والمندفع لتعليم شباب الخيام الأمر الذي أرهقه أشد الإرهاق وطالب المدير المربي الأستاذ علي حسين عبدالله بمساعدته في إيجاد حل لمحنته ولما تأخر الحل طلب الإنتقال للتدريس في مدرسة شبعا في أعالي جبل الشيخ بحثا عن توازن وهدوء وسكينة هو بحاجة إليهم وتشتاق إليهم روحه الهادئة.
تجربة تأسيسية ثانية في مدرسة شبعا
في العام 1954إنتقل الأستاذ نايف علي مرعي إلى بلدة شبعا حيث كان قد تزوج وإصطحب أسرته إليها وفي شبعا لم يكن يوجد من هيئة التدريس إلا مدير المدرسة الأستاذ حسان ماضي الذي جاء الأستاذ نايف ليعاونه في تأسيس مدرسة جديدة للبلدة تشكلت بداية من خمسة فصول دراسية وبدأ الأستاذان يدرسان على طريقة التدريس التي إعتمدها الأستاذ نايف في مدرسة كفرشوبا سابقا ورويدا رويدا بدأ إستقدام أساتذة يساعدونهما وكان منهم(علي أحمد عياش، محمد باشا، كامل رحيم-نجيب زبيب من النميرية- محمد بردى- كرم دياب وابراهيم أيوب من دير ميماس-استاذ من آل أسعد من كوكبا وأسعد تحفة من شبعا)وصار الأستاذ نايف ناظرا لأول مرة في حياته ولكن كان جميع الأساتذة والإداريين يشاركون في عملية التعليم.
في إحدى السنوات حصل خلاف بين المدير الأستاذ حسان ماضي الذي كان منتميا إلى الحزب القومي السوري الإجتماعي وبين الأستاذ أسعد تحفة على خلفية الإنتماء السياسي فأوفدت وزارة التربية على أثر وصول أخبار الخلاف إليها المفتش التربوي أنطوان الصايغ الذي أجرى تحقيقا حول القضية وكانت نتيجة ذلك التحقيق نقل تأديبي للأساتذة الحزبيين إلى مدارس بعيدة على الشكل التالي:
1-الأستاذ حسان ماضي إلى مدرسة الكفير
2-الأستاذ أسعد تحفة إلى مدرسة الذنيبة
3-الأستاذ أكرم ذياب إلى مدرسة شيحين
وتم تعيين الأستاذ نايف مرعي مديرا لمدرسة شبعا الرسمية ويذكر الأستاذ نايف أيضا أن من الذين درسوا في مدرسة شبعا كان منيف الخطيب الذي صار أستاذ لاحقا ثم صار نائب بعدها.
تعلو بلدة شبعا1500م عن سطح البحر الأمر الذي يجعل شتاءها شديد الصقيع حيث يذكر الأستاذ نايف أنه كانت تمر فترات يضطر فيها الناس في شبعا في فصل الشتاء للبقاء في منازلهم مدة تزيد عن الشهر نتيجة تراكم الثلوج في الطرقات حيث لم يكن يوجد آليات قادرة على فتح الطرقات يومها وكان الأهالي يضطرون إلى تنظيف أسقف منازلهم الترابية من الثلج المتراكم وحدل الأسقف بالمحادل الحجرية بعد إضافة تربة بيضاء إليها كان من عادة الأهالي أن يخزنوها جافة في منازلهم لمثل هكذا ظروف كل ذلك تفاديا لحصول حالات نش مؤذية للقاطنين ونادرة هي السنوات التي كان الناس فيها ينجون من أضرار نش الأسطح.وكان الناس في هذه الفترات التي يحاصرهم فيها الثلج يكتفون بالأكل من مونة البيت المخزنة مثل الحبوب والقورما والكشك والصعتر والمربيات والتين المجفف والتمر والجوز واللوز والزبيب والزيتون وأشياء أخر.
يروي الأستاذ نايف مرعي مرفقا روايته بإبتسامته الوديعة العذبة أن الحاجة أم فؤاد(زوجته)ظلت تذكره عاتبة عليه طوال العمر بالصقيع الذي كانت تعاني منه مع أطفالها خلال المرحلة التي سكنت فيها عائلتهم في بلدة شبعا في خمسينات القرن الماضي.
العودة إلى الخيام
عام 1960 عاد الأستاذ نايف مع أسرته بعد سبع سنوات من الغياب شارك فيها بكل فعالية في تأسيس المدرسة الرسمية في بلدة شبعا وترك فيها أثرا طيبا هناك لا ينسى. وكانت قد بنيت في تلك الفترة في الخيام مدرسة البنات في الجلاحية إضافة إلى إستئجار منزل أبو سمرا قرب الكنيسة لصالح المدرسة أيضا وكان عدد الطلاب والطالبات قد إزداد وتضاعف بنسبة كبيرة وصار من الضروري تفريع المدارس إلى مدرسة إبتدائية ومتوسطة وثانوية إضافة للحظ مدرسة خاصة بالبنات وسنتحدث في الحلقة القادمة عن تلك المرحلة بالتفصيل إن شاء الله.
لئلا تضيع
هي ذكريات أسست لنشوء مدينة جميلة إسمها الخيام بناها الأجداد والآباء بجهد وعذابات مضنية وجبلوا أعمارهم بدمهم وعرقهم وتعبهم وسهرهم وعبروا محطات وتحديات وأزمات كانت في كثير من المراحل تهدد وجودهم ومستقبل أبنائهم وأسرهم ورغم كثرة الصعاب والمخاطر انتصروا بإرادة الحياة التي تمتعوا بها وتركوا لنا إرثا وذكريات جميلة هي مدعاة للفخر والإعتزاز وهذه الذكريات تمثل مخزونا ومعينا لا ينضب من التجارب والخبرات والحكمة التي حرام علينا أن نسمح بأن يطويها النسيان والضياع.
من هنا وعرفانا منا بأهمية الكنز التراثي الذي تحويه الخيام سنبدأ عرض سلسلة من الأبحاث والمقالات التي تتحدث عن تاريخ الخيام في كافة مجالات الحياة وأرجو من كل من لديه قدرة من أبناء الخيام الأحبة وهم كثر ولله الحمد أن يشارك بتقديم إضافة أو ملاحظة أو يمد لنا يد العون لنقدم عملا لائقا بالخيام وأهلها الطيبين.
مع الشكر الجزيل والإمتمان سلفا لكل من ينصحنا ويهدي إلينا عيوبنا ويسامحنا على هفواتنا غير المقصودة ويتكامل مع هذا المسعى النبيل.
المصادر:
لقاء مباشر مسجل صورة وصوت مع الأستاذ الفاضل نايف علي مرعي.
الأستاذ محمد إبراهيم مهنا
الى اللقاء مع حلقة أخرى من تاريخ التربية والتعليم في الخيام. على أمل أن نقوم بإغنائها بكل إضافة يمكن أن تقدم لنا من أهل الخيام الطيبين والذين لديهم معلومات تفيد.
* المهندس عدنان إبراهيم سمور، هاتف & واتس: 03/209981
موضوع ذات صلة: تاريخ التربية والتعليم في الخيام - الجزء الأول
موضوع ذات صلة: تاريخ التربية والتعليم في الخيام - الجزء الثاني
موضوع ذات صلة: تاريخ التربية والتعليم في الخيام - الجزء الثالث
موضوع ذات صلة: تاريخ التربية والتعليم في الخيام - الجزء الرابع
موضوع ذات صلة: تاريخ التربية والتعليم في الخيام - الجزء الخامس
مقالات الكاتب المهندس عدنان سمور
من اليمين إلى اليسار: محمد عبد الحسين حيدر، د.عبد الحسن فاعور، د.علي محمد حسن عواضة، كامل خشيش وغازي ضاوي
تعليقات: