حسن عبدالله (أبو صلاح)
مقدمة لا بد منها
بداية أهدي هذا الجزء لروح فقيدة الخيام العزيزة صباح حسن عبدالله وكم كنت اتمنى أن أكون قد انجزت كتابة هذا الجزء قبل رحيلها المبكر لتقرأه بحيويتها وفرحها المعهودين لأنه ورد ذكر المرحوم والدها في هذا الجزء وكنت قد طلبت منها صورته فأرسلتها لي وكانت مهتمة كعادتها وشجعتني على كتابة تاريخ الخيام الجميل، وبتقديري أن الفقيدة من القليلات جدا اللاتي بقيت مسكونة بحب الحياة الطفولي منذ يوم ولادتها حتى يوم مغادرتها لهذا العالم الفاني، لذلك أقدم أحر التعازي القلبية إلى أسرتها وأخوتها الأعزاء سائلا المولى الكريم ان يلهمهم الصبر والسلوان وأن يتغمدها بواسع رحمته.
حسين محمد يوسف (أبو رضا المنجد 1937) ظروف النشأة
التصق إسم مهنة التنجيد بإسم أبو رضا ورافق اسماء اولاده بدون استثناء وكذلك فعل مع الأحفاد لتمييزهم حين يذكرون ولتحديد المقصود في الكلام عن سواه بسرعة وبدون اشتباه، وهكذا تحولت بمرور الزمن اسماء بعض المهن إلى أسماء عائلات مثل (نجار - لحام - حداد - سكاف - دهان - حطاب - بستاني - مزرعاني وغيرها).
ولد حسين محمد يوسف(أبو رضا)لأب مزارع يضمن الأرض في منطقة صردا من الحاج خليل عبدالله والد الحاج عباس الحاج خليل عبدالله ونظرا لأن مهنة الزراعة تحتاج الى جهد جسدي كبير ويبقى دخلها متواضعا بسبب إعتماد المزارعين يومها على الزراعات الموسمية نظرا لندرة توفر المياه في فصل الصيف حيث لم يكن يوجد غير بركة صردا هناك ولم تكن الآبار الأرتوازية معروفة ولا وسائل الري الحديثة التي توفر استهلاك المياه،لذلك قرر حسين محمد يوسف(أبو رضا) باكرا أن لا يمتهن مهنة والده المتعبة،وقد إستعرض المهن التي توفر له مشاهدتها في طفولته وبداية شبابه فراقت له مهنة التنجيد واعجبته وقرر ان يبذل كل جهد ممكن ليتعلمها.
البحث عن منجد يعلمه الصنعة
بداية قصد حسين محمد يوسف(أبو رضا)المنجد الخيامي الأول علي حسن قاسم عواضة(الشطور) وكان يبلغ من العمر يومها عشرون عاما وطلب منه أن يعلمه المهنة ويسمح له بمرافقته للتعلم ولكن نظرا للطباع التي كان يمتاز بها المنجد الأول (علي الشطور)كما سبق وتحدثنا عنه في الجزء الأول فقد رفض طلب حسين ولم يعقب.
رغم تعلق أم حسين يوسف الشديد بولدها فقد استأذن حسين من والديه وقصد بيروت باحثا عن فرصة ليتعلم مهنة التنجيد التي أحبها قلبه،في بيروت واسضافت حسين خالته زوجة محمد موس كلش التي عتبت عليه بشدة لأنه ترك والديه الذين هما بحاجة ماسة لمساعدته لكن حسين كان مصرا على موقفه حيث ذهب في صباح اليوم التالي الى منطقة المصيطبة نظرا لوجود محلات تنجيد كثيرة يومها هناك ودخل حسين أحد نلك المحال ورأى معلم التنجيد فيه منكبا على عمله وراح ينظر إليه بشغف وإعجاب وفجأة إلتفت المنجد إلى حسين يوسف وقال له "خير إن شاء الله؟"فسلم حسين على المعلم بحياء وقال له" أريد منك أن تعلمني التنجيد"فأجابه دون أن ينظر إليه"المحل ضيق ولا أريد شغيلة" وراح يتابع عمله،لكن حسين ظل واقفا وعيونه مسمرة على يدي الرجل الذي التفت إليه بعد دقائق وطلب منه بأسلوب جاف وحازم مغادرة المحل.
فشعر حسين بالأسى والفشل وفيما هو يهم بمغادرة المحل إذ بزوجة المنجد تدخل المحل حاملة معها زوادة فطور الصباح لزوجها وعندما وقعت عيناها على حسين حيته وسألته بلهفة عن أهله وتبين أنها خيامية وهي إبنة حسين الباشا وزوجها المنجد أيضا يدعى حسن الباشا ولكنه لم يكن خياميا.
سألت زوجة المنجد حسين"لماذا انت هنا؟"فأجابها أنه طلب من زوجها تعليمه المهنة فرفض فقالت لزوجها على الفور" حسين غالٍ علينا وأهله من اصحابنا الأعزاء وأتمنى منك أن توافق على طلبه وتعلمه المهنة"فأشفق المنجد على حسين واستجاب لرغبة زوجته وطلب من حسين أن يأتي إلى العمل صباح اليوم التالي.
حضر حسين في صباح اليوم التالي باكرا وباشر ترتيب محتويات المحل وكنسه وتنظيفه وصار يهتم بنظافة المدخل الخارجي للمحل ويراقب المعلم بدقة أثناء عمله وبشعور غامر بالفرح.وبعد مرور عدة أيام بدأ المعلم حسن الباشا بالسماح لحسين يوسف بتنجيد لحف الأطفال نظرا لصغر حجمها ولما كان الأنتاج ناجحا ويبيض الوجه زادت ثقة المعلم بشغيله وصار يعتمد عليه بتنجيد كافة ما يطلب منه، وبعد مرور شهرين اشتد عود وخبرة حسين يوسف وزادت ثقته بنفسه فطلب من المعلم دفع ثلاث ليرات بدل يومي له خاصة أن المعلم لم يبذل جهدا كبيرا في تعليمه المهنة لأنه كان نبيها وشاطرا ومبدعا في عمله لكن المعلم رفض بداية طلب حسين وقال "أنا ادفع فقط ليرة"،ولكن نتيجة إصرار حسين على طلبه وافق المعلم مرغما،وهكذا عمل حسين في بيروت مدة سنة تقريبا وقرر بعدها العودة إلى الخيام عام 1958 حيث استقبلته والدته بحرارة وشوق كبيرين.
منجد الخيام الثاني
في الخيام بدأ حسين يوسف يمارس مهنة التنجيد في الخيام ومحيطها وبدأ يذيع صيته نظرا لنعومة وجمال التصاميم التي حملها معه من بيروت وبدا واضحا أنه اكفأ من المنجد المعتمد في الخيام فازدادت شهرته وازداد الطلب عليه.
وقد علم حسين يوسف اخاه علي مهنة التنجيد وسلمه سوق(مرجعيون-دبين وبلاط).وعمل هو في(دير ميماس-القليعة والخيام)وكان يشتري وجوه الفرش واللحف من محل عبد الرسول صادق بالتقسيط ويبيعها لزبائنه فيزيد بذلك نسبة أرباحه.
بعد مدة ونظرا لدخول الإسفنج وتطور صناعة المفروشات في المدينة قل عمل المعلم حسن الباشا في بيروت فقصد الخيام وسكن عند بيت عمه حسين الباشا الذين كانوا يقيمون قرب البلايط.وبحث في الخيام عن شغيله السابق حسين يوسف وطلب منه مساعدته في تأمين فرصة عمل له،فقبل حسين طلب معلمه بطيبة خاطر وقال له"أنت صاحب فضل علي وأنا لا انسى الذين يتفضلون علي"وصار الرفيقان يلتقيان كل صباح باكرا في ساحة الخيام وينطلقان سيرا على الأقدام إلى راشيا الفخار أو القليعة أو مرجعيون حيث كانت سيارات الأجرة لا تزال نادرة في الخيام وكانت البوسطات والسائقون العموميون يذهبون بشكل يومي إلى بيروت.
بعد مرور عام على هذا الواقع انتقلت عدوى المدينة الى القرى وحصل ركود في مهنة التنجيد في الخيام فسافر أبو رضا الى الكويت وعمل مدة ثلاثة اشهر هناك حيث ساعده علي عواضة(أبو رباح)الذي كان منزله قرب دكان حسين هزيمة يومها وكان يعاونه في نعف الصوف والقطن للتنجيد.وكان كلما إتصل حسين بوالدته تبكي بحزن شديد وتقول امام الناس"كيف عايش حسين؟ومن يغسل له ملابسه وماذا يأكل وماذا يشرب؟)وكان حسين يتأثر كثيرا لبكاء والدته وحزنها لذلك عاد الى الخيام ولا زال يذكر كيف عانقته والدته عندما التقته بلهفة وقالت له 'إبقى هنا يا حسين الله يلعن المصاري ويلعن ساعتها".
وهكذا حقق(أبو رضا)حسين يوسف رغبة والدته واستأنف عمله الذي تحسنت أوضاع الشغل فيه لدرجة كان يصل فيها إنتاجه اليومي إلى15ليرة في الوقت الذي كان والده محمد يوسف وخاله محمد ذيب يعملان بالفاعل ويتقاضى الواحد منهما 3.5ليرة يوميا.
حكاية ابورضا مع أبوصلاح (حسن عبدالله)
التقى أبو رضا ذات يوم بحسن عبدالله (أبو صلاح) الذي كان جارا لبيت أهله وكان يدير مطعما في احد محلات محمد علي عواضة قرب محل هزيمة وكان يتردد الى مطعمه شباب الخيام وخاصة الجنود الذين يخدمون في الثكنة العسكرية في التل الرفيع في أعلى نقطة في الخيام. وسأل حسن عبدالله صديقه أبو رضا عن إنتاجه اليومي فأخبره انه ينتج 15 ليرة فسأله ماذا يصنع بها فأجابه"أساعد والدتي وأساعد أختي أم خليل نصار لأن زوجها سافر إلى الكويت ولديها اسرة تحتاج إلى مساعدة.
نصح حسن عبدالله صديقه أبو رضا أن يصمد امواله معه حرصا على مصلحته وكي لا يبددها بدون طائل فقبل ابو رضا شاكرا وبدأ يودع مع صديقه يوميا خمس ليرات.
ذات يوم ذهب أبو رضا إلى دكان الحاج حسن حنون حيث يجتمع الشباب هناك للتسلية وقضاء الوقت وهناك علم أن زوجة الحاج حسن حنون تريد بيع قطعة أرض في منطقة مطل الجبل وتطلب ثمنها 600 ليرة فأعلن أبو رضا أنه يريد شراءها واستمهل الحاجة زوجة حسن حنون بعض الوقت ليحضر المبلغ المطلوب وذهب مباشرة إلى مطعم صديقه أبو صلاح وسأله إن كانت أمواله متوفرة فأجابه صديقه "أبشر لماذا تريدها؟" فأخبره بنيته شراء أرض الحاج حسن حنون في مطل الجبل ففرح أبو صلاح كثيرا لهذا الخبر ورافق أبو رضا إلى دكان الحاج حسن حنون حيث وجدوا هناك (نعيم رسلان ومحمد ذيب وخليل ابراهيم حسن ووالد أبو رضا يوسف). وعندما عرف الحاضرون نية أبو رضا شراء الأرض قال نعيم رسلان انا أدفع ثمن الأرض 700 ليرة وقال محمد ذيب أنا أدفع 800 ليرة فضحك أبو رضا وقال انتم تزايدون وليس لديكم مال لتدفعوا وانا جاهز وهذه اموالي ودفع ست ورقات من فئة المئة ليرة وكانت من القياس الكبير فاندهش الحاضرون..
وقال والد أبو رضا لولده: "أُصحى تكون سارقهم يا حسين؟"
فأجابه حسين "ولو أنا تربايتك يا بيي ألا تذكر يوم أضاع أحد أبناء بنت جبيل مالا ووجدناه أنا وأنت ودفناه قرب مطحنة الميسات وكيف عاد الرجل بعد عشرين يوم وأعدنا له ماله؟".
يذكر أبو رضا أن قوس التنجيد بقي في المخزن بعد العودة من التهجير عام 1982 وباعه إلى أحد المنجدين.
* المصادر:
حسين محمد يوسف (أبو رضا المنجد
صباح حسن عبدالله
* عدنان إبراهيم سمور
باحث عن الحقيقة.
23/10/2021
موضوع ذات صلة: تاريخ مهنة التنجيد في الخيام (الجزء الأول)
مقالات الكاتب المهندس عدنان سمور
صباح حسن عبدالله بقيت مسكونة بحب الحياة الطفولي منذ يوم ولادتها حتى يوم مغادرتها لهذا العالم الفاني
حسین محمد يوسف - أبو رضا المنجد
علي حسن قاسم المعروف بـ علي الشطوط - توفي عام 1996 (تصوير المهندس أسعد رشيدي)
تعليقات: