يوسف بزي: نودّع الشعراء. والبلد أيضاً

الشاعر حسن عبدالله.. وتنطفئ تلك الشعلة التي تُتداول من جيل إلى جيل
الشاعر حسن عبدالله.. وتنطفئ تلك الشعلة التي تُتداول من جيل إلى جيل


عدا أولئك "القدماء"، أي آخر جيل القراءة والكتب، لم ينتبه أحد لوفاة الشاعر حسن عبدالله. وعلى الأرجح، لم يُسمع باسمه لدى أغلبية اللبنانيين، خصوصاً الشباب منهم. يصح ذلك بأمثاله من الذين راحوا يغادروننا الواحد تلو الآخر في العقد الأخير. أولئك الكتّاب والفنانون والسينمائيون والمفكرون والناشرون والصحافيون والشعراء، الذين ساهموا في منح لبنان بعضاً من خصائصه، والذين "صنعوا" (بالمعنى الحرفي للكلمة) بيروتَ، عمراناً وحياة، وها هم يغيبون وينطفئون إلى الأبد.

قد يبدو الأمر طوياً قاسياً لما تبقى من القرن العشرين، على نحو ما تفعل السيرورة التاريخية بأفول عصر وولادة آخر. وهذا ما يشهده العالم كله، على تفاوت في شدة البتر والقطيعة، وفي فداحة الإغفال والنسيان وتشويه الذاكرة.

قد يبدو الأمر أيضاً تحولاً مشهوداً في معنى الشهرة والتأثير، كأن يحل نجم "الستاند آب كوميدي" مكان الشاعر، أو "المغرد" و"اليوتيوبر" محل الكاتب الصحافي.. إلخ، وفق طبيعة الانقلابات التكنولوجية والثقافية المتلاحقة والمبتعدة بسرعة عن ذاك الزمن الذي كان فيه سعيد عقل مثلاً مساهماً في تكوين وجدان وطني.

مع ذلك، نشعر في لبنان أن الأمر أفدح من ذلك بكثير. فما نخسره ليس هؤلاء الذين يأخذهم الموت فرادى، بل ذاك الرصيد الذي ساهموا في مراكمته، والذي بتقديري الشخصي أكبر وأهم بما لا يقاس من احتياطي الذهب، ومن المئة مليار دولار التي تبخرت.

وما يفاقم الخسارة أن تلك الانتلجنسيا القديمة إذ تموت، يرافقها أيضاً خسارة أنتلجنسيا جديدة تقف في طوابير الهجرة المبكرة، حتى قبل أن تترك بصمة في بلدها. لبنان ينزف على نحو كارثي. الهرم السكاني-الاجتماعي ينزاح أكثر نحو غلبة فاقدي المهارات والمواهب والقدرات. وما يغذي الكارثة، هو التدهور الدراماتيكي في مستويات التعليم ونضوب مصادر التثقيف وتوارث الخبرات وتراجع رفاهيات الاطلاع والتذوق والفضول المعرفي.

إذاً، لا تعويض عن "القدماء" الذين يموتون و"الجدد" الذين يهاجرون.

وبهذا المعنى، نودع حسن عبدالله كما ودعنا شعراء آخرين.. كما أيضاً نودّع أبناءنا في المطار، وهم يهربون من هذا الثقب الأسود الذين يزداد عتمة.

وبات واضحاً أن ما يموت هو بلد أو فكرة بلد، ومعه تنطفىء بيوت وعمارات وأرصفة ومقاه وحانات وشوارع ومكتبات وأكشاك جرائد وكتب ومدارس وجامعات.. تنطفىء مسارح وقاعات، وتقفل دور نشر وتُغلق صحف (ماتت المجلات أيضاً). وهذا كله يبدد لغة وأفكار ومستودعات من قصص وتجارب. وتنطفئ تلك الشعلة التي تُتداول من جيل إلى جيل. إنه تقهقر إلى ما قبل التأسيس، إلى فراغ الأرض الجرداء، إلى دولة بلا أرشيف.. بلا مستقبل حتماً.

لست موقناً متى بدأت غلبة الموت على سيرة لبنان. ويخطر ببالي أن هذا القدر والمصير ارتسم بوضوح سياسي مع اغتيال رفيق الحريري، وتأكد بوضوح ثقافي مع اغتيال سمير قصير. وكان قتل الذي كتب "تاريخ بيروت" إعلاناً دموياً لمراسم دفن "الفكرة اللبنانية" سياسة وثقافة واجتماعاً... ومن هذين الاغتيالين تناسل الخراب واليأس ومسلسل الموت والهجرة. منهما إلى انفجار مرفأ بيروت كانت العاصمة تتحول إلى يوميات تأبينية، إلى طقوس وداع لكل ما كان يمنح بلادنا وكينونتنا ولغتنا وعقولنا تلك الإضاءة الخاصة، تلك الشعرية التي ميزت مخيلتنا وأسلوبنا في العيش والمعاشرة والتعبير..

حتى السياسة كانت بزمن الجمهورية الأولى متصلة مثلاً بجبران خليل جبران أو بالمسرح الرحباني. بل إن الحرب نفسها كانت حقبة ازدهار ثقافي لا مثيل له، فلا يمكن فصل "الحركة الوطنية" عن مسرح زياد الرحباني أو موسيقى مارسيل خليفة أو قصائد جيل عريض من الشعراء الأهم في تاريخنا المعاصر (ومنهم الراحل حسن عبدالله).

القديم يوارى تراب النسيان، والجديد يختفي إلى ما وراء البحار.. وأسياد العتمة باقون جاثمون على ما تبقى منا نحن الأحياء العالقون في بلاد الحِداد اليومي.

تعليقات: