صورة تاريخية لرئيس حكومة التحرير الدكتور سليم الحص، بعد زيارته معتقل الخيام، يتم رشه بالأرز من قبل الأهالي، خلال تجواله في بلدتهم في يوم التحرير بتاريخ 25 أيار 2000، بعدّ أن تم دحر قوات الاحتلال الإسرائيلية وعملائها من جنوب لبنان.
فقدنا علَماً من أعلام الأمة العربية، وركناً من أركان لبنان، وأباً روحياً كنا نستظلّ آراءه ومواقفه، ومحاوراً ديموقراطياً لطيفاً يبتسم إذا اختلفت معه برأي، وقلّما يحدث ذلك، فهو دائماً متفتح الذهن، عارف في ما يتحدث، مبتعد بسياسته عن اللعب والحرتقة والمصالح الضيقة. فقدنا مفكراً ترك خلفه أكثر من عشرين كتاباً، هي عصارة تجربته وخبرته في علوم السياسة والاقتصاد، ومحارباً مستقيماً للفساد، عارفاً بكل ما يبتكره الفاسدون من أساليب خبيثة يمرّرونها بين السطور، دمث الأخلاق إلى درجة لم يغادره أحد من كل الذين تعاونوا معه.رحل صديقنا الكبير سليم الحص الذي أعطى لبنان كل ما يملك من جهد وفكر وحب وتضحية. صديقنا الذي لم يلقِ أحد غباراً على سلوكه وأخلاقه ووفائه وطيب حضوره، هو الذي قضى حياته مخلصاً لمبادئه وأفكاره وأخلاقه، حاملاً وطنه على ظهره، وفلسطين في قلبه، حتى الرمق الأخير. لم يحد عن دعم الشعب الفلسطيني بوقفاته الصادقة المشرّفة في كل مناسبة، ولم يفته موقف حتى في أحلك الظروف. استمر مؤمناً بعروبته حتى عندما غادرها كثيرون، في هذا العصر الأميركي الضاغط على أنفاس العرب.
لم يركب يوماً موجة سياسية، إنما بقي مثالاً لأصحاب الفكر الحر المستقل، لا يوفر مناسبة إلا وقال فيها رأيه، بجرأة وإخلاص وصدق ووفاء لمبادئ رسّخها خلال عمر من علاقته بأصدقائه وشعبه وأمته. كنا نعرف أنه لا يريد مكسباً لنفسه، يناضل ويعمل من أجل أن يخفف ما أمكن من الأثقال التي ينوء بها الوطن والناس.
رحل كبيرنا الرئيس الحص، وقبله خسرت حلقة صداقته صديقَين كبيرين أيضاً، رحلا من جوار القلب، هما: الأستاذ طلال سلمان الذي صادف رحيل الرئيس الحص في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، والوزير السابق جورج قرم الذي غادرنا قبل أيام. عقود عدة مرت على معرفتي بالرئيس الحص عندما التقينا في منزل أحد الأطباء، للبحث في إعداد فرق طبية تنطلق من بيروت إلى الجنوب لمواجهة تداعيات العدوان الإسرائيلي عام 1982، وأنشأنا لجنة طبية وافق على ترؤسها لإنشاء مستشفيين ميدانيين في بيروت وصور. وعندما قصدنا الكويت لجمع تبرعات، حمّلنا رسائل لمسؤولي الجالية ولبعض أقربائه ومعارفه، ما ساعد كثيراً في نجاح الحملة. ولا أنسى حزنه الشديد عندما تفقّدنا، في منطقة الرادوف في الضاحية الجنوبية، مبنى تعرّض للتدمير الوحشي على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكانت الجثث لا تزال تحت الأنقاض، وحجارة المبنى ملطخة بالدماء.
في اللقاءات معه في «ندوة العمل الوطني» التي كان يرأسها، ثم في «منبر الوحدة الوطنية»، وفي غيرهما، كانت العلاقة به مبنيّة على الانسجام في الأفكار، والاحترام المتبادل، والتوافق في التوجهات. شديد التواضع وسريع النكتة، يضفي على الجلسات الحميمة نكهة خاصة مؤنسة. أعطى السياسة معناها الأخلاقي والوطني والقومي، وبقي طوال حياته رمزاً للاستقامة، مكافحاً من أجل العدالة، ولا سيما للشعب الفلسطيني.
خسرنا قامة وطنية كبيرة لا تعوّض، لم يحنِها الظلم الذي كثيراً ما تعرّض له، ولم تبدّلها الضغوط والمؤامرات. والتعازي لكريمته العزيزة الدكتورة وداد وحفيده الطبيب سليم رحال، وكل الأصدقاء الذين واكبوه ورافقوه واستمرّوا ويستمرّون مخلصين لأفكاره.
* رئيس «مؤسسة عامل الدولية»
تعليقات: