الجنوب كما رواه محمد العبدالله


«إنني مستوحدٌ كقمر الصيف يا مريم، كشرفة بساهر وحيد»: لو كان محمد العبدالله (1946-2016) بيننا اليوم، ماذا كان سيقول لقمر الخيام الطالع فوق البيوت المهدّمة؟

أي شعر كان سيتلوه لمريم فوق الأشجار المحروقة؟

من يعرف «الدونكيشوت» الأخير تمام المعرفة، سيجزم أنّه لو كان «أبو رضا» بيننا، لأمسك الحرب الهائجة من قرنيها ودار ساخراً بها كمصارع الكوريدا وحوّلها إلى مشهد من السوريالية والكوميديا السوداء التي تهزأ بالاحتلال وبالمذبحة... ابن الخيام المحاذية لفلسطين كان واحداً من تلك الكوكبة ممن تركوا شموس آبائهم في الأرض العاملية المنقوبة بالحديد والنار والدم لينغمسوا في المدينة الصعبة، وكان كل ما كتبه صاحب رسائل الوحشة (1979) بمنزلة صوت موغل في التمرد والحرية الجامحة لشاعر بوهيمي يقول تجربته الخاصة في الشغب و«الشطح» الضروري لقول مخالف للسائد والمألوف وسخرية مرّة هي اعتراض وجودي على الحرب والسلطة بكل أشكالها. كان محمد العبدالله معلّقاً في رقصة تانغو أو طرف بندول يؤرجحه بين الريف والمدينة. لم تفارق الأرض الجنوبية قلب وعقل ومخيّلة صاحب «بعد ظهر نبيذ أحمر»، فنسمعه يرثي «يارين» المحترقة: «يصعد الماء إلى حلق يارين ثم يغيض/ يارين مخنوقة/ دبق ورق التبغ على أصابعها/ دبق ورق التبغ في روحها/ دبق ورق التبغ في حلمها/ يارين تكبر في لعنة التبغ/ والنهر يجري/ خلعت يارين أثوابها وارتمت في مهبّ المياه/آه.../ أيها النهر/ ينبغي أن تتزوجني الآن». وبين طرف البندول الآخر المتمثل في المدينة الصعبة والعصية على «الفاتحين» الغرباء ولو كانوا من الشعراء، فيسجل الشاعر اعتراضه على المدينة بما تمثله من فكرة مضادة للمشاعية، وصياغتها بعد الحرب الأهلية اللبنانية كمشروع إسمنتي كبير أبعد ما يكون عن فكرة المدينة التي تذيب في بوتقتها الفوارق الإثنية والريفية وتدوّرها وتصنع هوية أوسع وأرحب وأكثر احتفاء بالحرية. لا تقلّ نصوص محمد العبدالله النثرية جمالية وذكاء عن نتاجه الشعري. لم تكن أقلّ احتفاء بالجنوب والمقاومة كما في قصة «البريء» وسخرية من الاحتلال كما في «عند حاجز الأولي» من قصائده الأولى الطالعة من وجع القرى والتبغ المحترق فوق البيادر. في هذه المعركة الوجودية مع العدو، نترك السرد لأحد من أجمل شعراء الجنوب، يرسم للخيام قمراً وسهلاً وشرفة لمريم المستوحدة


ورود على مرمى خمسة آلاف كلم من الوطن

قرب محطة «أوسترليتز» في الدائرة الخامسة من باريس تقع حديقة النباتات. وهي ليست كسائر حدائق باريس العدة يقصدها الناس للنزهة والاستمتاع، فحسب، بتشكيلات الزهور والنباتات وألوانها التي يتقن الفرنسيون فنّ زراعتها وتنسيقها والعناية بها. حديقة النباتات موسوعة طبيعية تخفي خلف الاهتمام الجمالي هاجساً علمياً ملازماً للعقل الاوروبي، وميلاً موسوعياً هو الأساس في نهوض الأمم العظيمة.

حديقة النباتات موسوعة طبيعية تجد فيها نماذج من جميع زهور ونباتات العالم مع أسمائها المكتوبة على بطاقات قرب كل زهرة ونبتة. استدرجتني الحديقة وسرحت بالذاكرة إلى الزهور والنباتات التي أعرفها في بلادي، إلى ما أحسبه غريباً وخاصاً وملازماً للبيئة المحليّة في جنوب لبنان. واستحضرت نباتات وزهوراً كانت ملعباً لطفولتي عشتُ بينها زمناً أكثر مما عشتُ بين الأهل في البيت. ورحت أفتش كمن يطرح تحديّاً على الحديقة. تجاوزت الزهور والنباتات الشهيرة التي يمكن استنباتها في ظروف عادية سهلة المثال، قلتُ افتح الصفحات السرية الداخلية من كتاب الطبيعة الذي عشت بين دفتيه. سأبحث، مثلاً، عن «عرف الديك» وهو نبتة تعيش في الحقول المعشوشبة ذات أوراق خضراء موشحة بحمرة داكنة، كنّا نستمتع بحموضة أغصانها. بحثت ووجدتُ عرف الديك. «درة البقرة» وهي زهرة برية بيضاء متعددة البتلات على شكل جَرس يكثر وجودها بعد شتوات الخريف الأولى، وكنا أيضاً نأكلها... وجدت «درة البقرة»... واسترسلت كمن يستردّ طفولته دفعةً واحدةً، وأخذت تتشكل أمامي مروج وسهول «الخيام» وينابيعها وبحيراتها وفصولها المتعاقبة، ورجعت ولداً صغيراً يلبس «صندله» و«شورته» ويسرح منذ الصباح حتى المساء مع أترابه في الحقول والبساتين. وتوالت أمامي الألوان والأشكال: «الخواتم»، «الحلوز»، «كعب الغزال»، (السنيورة) و.... توقفت. سوف أطرح سؤالاً صعباً على الحديقة، ولا يمكن أن أستسلم بهذه السهولة. سأطرح سؤال «خبز الدبة»، وهذه نبتة ملاصقة للأرض تحمل بين أوراقها لفائف خضراء على شكل دوائر سكرية الطعم تنبت على البيادر الخضراء في فصل الربيع. وهي نبتة باسمها وشكلها قد تكون نادرة الوجود في مناطق أخرى، إذ إنني سبق وسألت عنها في مطارح عدة من لبنان فلم أجدها، ربما لاختلاف أسماء النباتات من منطقة إلى أخرى. حسناً. سأختبر هذا الادّعاء الموسوعي للحديقة بسؤال صعب: أين، إذن، «خبز الدبّة»؟ وفتشت برغبة كامنة في عدم العثور على النبتة، فتشتُ ثم انتبهتُ، ينبغي أن أحصر بحثي في التربة المشابهة التي تنبت عليها «خبز الدبّة»، تربة تشبه البيادر الخضراء في فصل الربيع. تقدمتُ وقد اشتعلت فضولاً. إنها هنا! ها هي كما أعرفها تماماً! بضع نبتات قربها بطاقة مكتوب عليها بالفرنسية ما ترجمته «خبز القمر».

كان ينبغي أن أنحني وأقطف واحدة وآكلها. ولكن هذه المرة ليست نبتتي صالحة للأكل، إنها صفحة في موسوعة استغرقت أبحاثاً كثيرة واستهلكت جهداً كبيراً وهي جزء من كلّ شامل في بلاد تعرف كيف تؤلّف عقلها وتدفع به نحو آفاق جديدة. ثم... ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان حتى ولو كان «خبز الدبّة» إيّاه، وعلى مرمى خمسة آلاف كلم من الوطن ومرمى أربعين سنة من الطفولة.

(من كتاب «كيفما اتّفق»، دار المسار، 1999)


محمد العبدالله

بـــــــــلاد

أوتوستراد الزهراني - النبطية قيد الإنجاز، في مراحله الأخيرة، وعلى جانبه انتشرت البنايات والفيلات والقصور. سيأتي يوم قريب يصبح فيه لبنان مدينة واحدة متصلة ببعضها، سيلزم إذن الكثير من التنظيم المدني خصوصاً الالتزام بهذا التنظيم. بسطات الخضار على مدخل كفرمان تلوح من بعيد يتوسطها الفجل الأحمر، من أشهر أنواع الفجل وألذّه فجل كفرمان الذي يُزرع في الوادي الأخضر على أقدام جبل الريحان بمحاذاة نهر الليطاني. لا يفوق فجل كفرمان شهرةً وحلاوةً سوى فجل الخيام الذي يزرع في سهل مرجعيون ويشرب من ينابيعه، فيبلغ حداً مرموقاً من النمو واليناع، مدعبلاً وطويلاً، ولكن دون وصوله إلى السوق الداخلية صعوبات وحواجز وتفتيش دقيق. يترجل عبد اللطيف مباشرة باتجاه الفجل، فندرك أنّ يومنا سيكون يوم فجل مشهوداً وما يليق معه من مأكلٍ خصوصاً المجدّرة الحمراء التي تتقن سناء طبخها أمّاً عن جدّة. موقع الميليشيات العسكري الذي كان على قمة التلّة المشرفة على جسر القعقعية، انتقل إلى مكان آخر وأصبح الطريق آمناً. تتلوى المنعطفات نزولاً حتى الجسر، ينساب الليطاني تحته هادئاً وديعاً وتنتشر على ضفافه بساتين الليمون والبرتقال. يعتقد عبد اللطيف أنّ أسعار الأرض هنا سوف تلتهب التهاباً إذا نجحت مفاوضات السلام، ويحلم بأن تكون له قطعة أرض على ضفة نهر من الأنهار. أما حلمه الكبير، فقطعة أرض عند مصبّ نهر من الأنهار فيكون ساعتئذ بين مياه النهر الحلوة الخضراء ومياه البحر المالحة الزرقاء و... تلك هي السعادة. على مشارف الغندورية، ينكشف الجنوب جنوباً حتى فلسطين وشرقاً حتى جبل الشيخ، وتومات نيحا، فتتداخل الأودية وتتحدب الهضاب هيئة الارتفاع والانحدار. سناء ترى أن هذه التعاريج والاستدارات لها تشكيل أنثوي واضح، فيفوز ما تراه بالإجماع، ويقترح عبد اللطيف فيلماً روائياً يجمع إلى وداعة وجمال جغرافيا الجنوب اللهب الداخلي في الروح الجنوبية، فيفوز الاقتراح بالإجماع أيضاً ما دام الأبطال موجودين والجنوب موجوداً فلا يبقى لدينا سوى تأمين السيناريو والإخراج والإنتاج…

طقس غلامي، نصف شمس ونصف ظلّ، نصف مطر ونصف صحو. أمام بيت عبد اللطيف نصف مطر يرذّ بهدوء ويتقدم وئيداً في الصحو والجفاف، فتستطيع لوهلة أن تضع قدماً في النصف الممطر المبلل من التراب وقدماً أخرى في النصف الصاحي الجاف. تطيب لسناء هذه اللعبة فتروح تسابق الرذاذ المتساقط ضاحكة بوجه جبل الشيخ المكلل بالثلوج، بينما هند «تنقي» العدس الأحمر وعبد اللطيف يفرم البصل تحضيراً للمجدرة، بينما أنا... من ضيّع في الأوهام عمرَه.

(من كتاب «لحم السعادة: نصوص الجنوب وجهات أخرى»، دار الفارابي، 2000).


البـــــــــــريء

- جعفر. إنت ليش هون؟ عنّا.

ياه. ما أجمل هذا السؤال. إنّه إقرار علني ببراءته. كاد يغصّ بإحساسه بالبراءة. لم يستطع الكلام، فاكتفى بتقليب كفيه وهزّة من رأسه علامة الحيرة والأسف من دون أن يغير زاوية النظرة الوادعة البريئة. كرر المحقّق:

- في عسكر تبعْنا حمار. ما بيعرف مين مخرب مين مش مخرب!

لقد انتهت المسألة تماماً، كمسحة رسول. ابتسم بشجاعة. تجرأ ونظر بحبّ إلى المحقق. رأى أنه شاب جميل وطيب و... تكلم أيضاً:

- معليش سيدنا. أنا؟ أي تخريب. الله يبعدنا عن ولاد الحرام.

- - برافو جعفر. إنت شاب قبضاي.

- تسلم سيدنا.

وكاد يغرورق من الفرح.

استمر المحقق يقلّب الملف بين يديه. قلب شفته السفلى وهز رأسه مستحسناً:

- إنت شاب كويّس جعفر. ما بيحب سياسة. مقاومة، تخريب، أحزاب. كلّو بطاطا.

وضحك وهو ينظر إلى جعفر. طأطأ جعفر. استمر المحقق في الضحك.

بقي جعفر مطأطئاً. توقف الضحك فجأة وبلهجة شبه جافة:

- بطاطا جعفر. مش هيك؟

رأى نفسه ينظر إليه ثانية. فلتكن بطاطا. ينبغي أن يجيب. إنه لا يعرف حتى ماذا يقصد المحقق بالبطاطا. لقد أربكه:

- بطاطا سيدنا.

انفجر المحقق ضاحكاً. ضحك. وجد جعفر نفسه يبتسم ثم... يضحك. يضحك ببلاهة. ينبغي أن ينتهي بسرعة. ينبغي أن يضحك بسرعة. ماذا لو ضحك وانتهى.

- برافو جعفر.

كانت دموع الضحك تنحدر على خدَّي المحقق، فيمسحها ويستمر في تقليب الملف:

- برافو جعفر بس...

ركّز المحقق في عينيه نظرة جافّة. اضطرب قليلاً. حاول ألا يبدو عليه ذلك.

إنني بريء. حدّث نفسه. بس ماذا؟... لا شيء بالطبع. إنه يختبرني فقط. انتظر. ألقى مجدداً بنصف نظرته الوادعة البريئة والبلهاء أيضاً هذه المرة. رغب أن يبدو أبلهاً لا يفهم. ضحك المحقق ضحكة خفيفة. هدأ روع جعفر. إنه يمزح معي.

- بس إنت بيحط صورة عبد الناصر بالصالون؟

سارع فوراً إلى القول: مزبوط سيدنا، الصورة حطتها أختي. أنا...

قاطعه المحقق:

- بعرف جعفر. بعرف. عبد الناصر... بطاطا (وضحك ضحكة خفيفة)

فقط عندما مات عبد الناصر. انزوى جانباً وهو يسمع نشيجاً متعدد المصادر والزوايا. بل إنه أيضاً شعر بقلبه معصوراً على غير عادة وطفش صوب البحر. أخذ معه عدة أصابع ديناميت وشرع يلقي بها متظاهراً بالصيد. ثم أدرك أنه لم يكن يتصيد كعادته. إنه لا يفرّط بالديناميت بهذه السهولة كالأولاد. إنه جعفر الذي لا يرمي ربع إصبع الديناميت إلّا على أهداف محترمة لا تقل عن خمس حبات من سمك اللقز، ويخجل إذا لم يحصدها جميعاً، الخمس. الآن يرمي كيفما اتفق. حبة واحدة متوسطة الحجم يقذفها بربع الإصبع. بل مرمورتان صغيرتان رماهما بربع إصبع. كان راغباً في تفجير الديناميت أكثر من رغبته في الصيد.

... كأنه مزاد. صحيح، يشعر بتهيّب عند ذكر أولئك الذين يفجّرون أنفسهم بالدبابات. يتهيب ويأسف ماذا يستطيع هؤلاء أمام الجيش الإسرائيلي؟ العرب جميعهم لم يستطيعوا شيئاً! ويذهب دائماً إلى البحر. يحرص على اصطحاب سعد شقيق زينب معه. يعطيه قسماً من الصيد. سوف تعرف زينب من تصيّد هذه السمكات. منذ مدة لم يعد سعد يذهب معه. أصبحت حركاته كحركات الرجال قبل الأوان، ونظراته صارمة وتثير فيه الارتياب. أخذ جعفر يكتفي بنظرة إلى نافذة زينب. بلقاء بعيد في عرس أو جنازة. ليس مؤهلاً بعد للتقدم إلى خطبتها. ينبغي أن يشتري قارباً أولاً. ثم يخطبها.

كان المحقق ينقر على الطاولة نقراً عصبياً متلاحقاً بكرباج صغير. إنه ينظر إلى جعفر نظرة محكمة وجعفر استرد نفسه ونظر إلى المحقق من دون دراسة زاوية نظرته. نظر إليه باستهجان من دون وداعة ولا براءة. كأنه يسأل نفسه ماذا يفعل هنا. كرّر المحقق بثبات وهو ينقر الطاولة:

- عبد الناصر بطاطا جعفر.

ردد جعفر: بطاطا سيدنا.

ضرب المحقق ضربة قوية على الطاولة وصرخ:

- برافو جعفر.

غاص جعفر في مقعده. أحس أنه غاص. طأطأ رأسه. انفجر المحقق ضاحكاً.

ماذا يريد مني ابن الكلب؟

أكمل المحقق لعبته. المقاومة بطاطا. يغوص جعفر في مقعده ويندى جبينه بالعرق.

أنزله الجيب في مدينة صور مشى باتجاه البلدة. تتوقف سيارات الأجرة قربه فلا يبالي. يستمر ماشياً، ثم انعطف بين البساتين. تضرب أغصان الموز والبرتقال وجهه وكتفيه ويستمر ماشياً يتصبّب عرقاً ورأسه يلتهب بالحمى. عندما وصل إلى أوّل البلدة، كان دامي الوجه ممزّق القميص بالغ الإعياء إذ ارتمى على الأرض عند مشارف البيت وأجهش بالبكاء.

بعد أسبوعين، زالت الحمّى عن جعفر ولكنه بقي لائذاً بالصمت. صمت مطبق. لا يتناول سوى الماء. معدته ترفض أي طعام. تقيأ ثلاث مرات ثم عزف عن الأكل واكتفى بالماء. لم يخرج أبداً من البيت. يقضي النهار هائماً من غرفة إلى غرفة، يتوقف أحياناً أمام صورة عبد الناصر. يشخص إليها طويلاً حتى لا تعود تحمله ركبتاه ثم يأوي إلى غرفته ويرتمي على السرير. حاولت سعدى الكلام معه فلم تظفر بأي ردّ. عادته زينب فأشاح عنها. فقط كان عندما يقع نظره على سعدى وهي تقشر البطاطا يجلس قبالتها متأملاً وهو يدخن. يجلس حتى تنتهي، فينهض إلى غرفته ويرتمي على السرير بادي الإعياء. نحل جسمه ونتأت عظامه وغارت عيناه. ذهبت سعدى إلى جميع أصحابه ورجتهم محاولة الكلام معه ومعرفة ما يدور في رأسه، فلم يفلح أحد. فقط ذات يوم جاء سعد أخو زينب ودخل عليه. بعد لحظات قام جعفر وأوصد الباب من الداخل. سمعت سعدى كلاماً يدور في الغرفة.

تكررت الزيارة وسعدى تسمع كلاماً يدور في الغرفة. ثم... طلب جعفر طعاماً فجاءت به. أكل بشهية غير معتادة. لاحظت سعدى أن صوراً تتكاثر يوماً بعد يوم على جدران غرفة جعفر. صورة شهداء يحملها معه سعد، فيقوم جعفر بلصقها على الحائط. أخذت مساحة الجدران تتناقص والصور تمتد حتى لم يبقَ سوى مساحة صغيرة خالية. التفت جعفر إلى سعد وقال

مبتسماً وهو يشير إلى المساحة الخالية.

- هذه لي أنا.

- إنها تتسع لصورتين.

وفي صبيحة يوم من الأيام رأت سعدى جعفراً يعدّ الديناميت للصيد. ثم جاء سعد ومضيا معاً صوب البحر. في المساء، عاد الاثنان بسمك كثير ولبث سعد عندهم. ثم جاءت زينب. أشار جعفر على أخته أن تحمل إليه جميع البطاطا التي في البيت، فلبّت مستغربة. جلس يقشر البطاطا في الطشت الكبير حتى امتلأ. تعشى الجميع سمكاً وبطاطا. وبعد منتصف الليل، استيقظت الأخت على حركة مريبة في البيت. كان جعفر قاعداً يتناول القهوة ويدخن في الصالون وعلى ركبتيه بندقية كلاشينكوف وجعب الرصاص تحيط بخصره. قام إلى أخته فقبّلها في رأسها. شدّ على يدها وقال:

- إنّي ذاهب أنا وسعد.

أجابت بهدوء:

- أعرف.

سُمع في تلك الليلة دويّ انفجارات كثيرة. وفي الصباح حضرت الدوريات الإسرائيلية تعتقل عشوائياً.

لبط العسكري الإسرائيلي الباب ودخل مع مرافقيه إلى البيت. قال لزينب وهو يتأمّل صور الشهداء على جدران غرفة جعفر:

- واحد عكروت مخرب أخوك جعفر وينو؟

أجابت زينب بهدوء:

- لقد سافر من زمان، إلى عند خاله في البرازيل.

(من كتاب «البيجاما المقلّمة»، دار عالم الفكر، 1996)


على حاجز الأولي

على حاجز نهر الأولي صفوف طويلة من السيارات التي تنتظر دورها. قلت: أخذ خط اليمين أوّلاً لأنه يحاذي البحر وأنا شاعري، وثانياً تحسباً من شاحنة تحاذيني وتطلق سخام مـدخنتها باتجاهي، فأخذت خط اليمين، غير أنّ واحداً أخذ يحاشرني ويحاول إيجاد يمين على أقصى يميني. قلت: لا يوجد أقصى يمين في هذه البلاد وينبغي للواحد أن يدافع دائماً عن أقصى يمينه، فرحت أدافع عنه فنجحت. غير أنني بقيت مستنفراً تحسباً من هجوم جديد، وشاهدت أن السيارات ثلاثة صفوف. قلت: الحاجز بطيء.

وقلت: يتباطأون قصداً لكي يجعلونا ننتظر. وقلت: أين أمن الجليل من هذه السفاهة، ونجحت في تسجيل إصابة في أخلاق العدو، قلت: بدأ الاحتلال. وشاهدت أن أحدهم شرد عن الصف الثالث ودوبل على الجميع فلحقه آخرون وشكّلوا صفاً رابعاً. قلت: الفساد يكون نائماً وعندما نوقظه ينكشف مرّة واحدة وتذكرت: عندما ينبح كلب في ليل القرية، تنبح وراءه كلاب كثيرة. وسألت: هذا الذي شرد عن الصف أو نبح عن الصف. هل يعتبر نفسه أحسن من سائر المواطنين المنتظرين؟

وفكرت: لا شك أنه جلف ويضحك من دون مناسبة ويخبر عمته أو بنت خالته عندما يصل وهو يضحك كيف استطاع أن يشرد عن الصف ويعبر قبل الآخرين. ولا بدّ أن عمته أو بنت خالته هذه تضحك له أيضاً وتحوطه بالنبي من عين الحاسد وتتمنى أن يقبرها بيديه السلهبيتين اللتين تنتزعان اللقمة من فم السبع. قلت: أكره هذا الشخص من دون شك وأتمنى أن يرجعه الحاجز إلى آخر الصف. فوجدت نفسي أنا والحاجز في جهة وهذا البغل في جهة ثانية. قلت: يجد الواحد نفسه أحياناً في صفوف العدو. غير أن الحاجز لم يرجع أحداً. قلت: لا بدّ أنهم يفضلون أن نكون على هذه الشاكلة، فرجعت من صفوف صفاً يقف فيه، وشاهدت العدّو ووقفت على مسافة بين الطرفين. قلت: أحياناً لا يجد الواحد أنّ آخر شرد عن الصف الرابع، فلحقه آخرون وشكّلوا صفاً خامساً، وشاهدت آخر يشرد عن الصف الخامس ويلحقه آخرون، فيشكلون صفاً سادساً، فامتنع العبور على العائدين بالاتجاه الآخر، واختلط الأمر وامتنعت الحركة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. قلت: ليس هذا سوى فضيحة تحت أنظار الإسرائيليين وقلت: الفضيحة شر من الاحتلال. وقلت: الفضيحة سابقة على الاحتلال وقلت: أدخّن... دخّنت. ماذا أفعل بفضيحة؟ أهرب منها، هربت صوب البحر. وشاهدت أن نهر الأوّلي يلتقي بالبحر، فتختلط المياه العذبة بالمياه المالحة والأخضر النهري بالأزرق البحري ويشكلون مروحة من الألوان المتدرجة بين الليلكي والفيروزي ينظمها الزبد الأبيض حول دلتا الحصى الأبيض وعلى مرمى غابة الشربين الصغيرة الوارفة التي كان يخيم فيها الكشافون ويتنزه المتنزهون والتي أصبحت الآن حقلاً أمنياً خالياً ومحظوراً للحاجز الإسرائيلي. قلت: الاحتلال ينفذ أيضاً إلى المستوى الجمالي ويفسد نسيج المتعة بقصد أو بغير قصد. وقلت: هذا جانب غير معلن من الاحتلال. وقلت ينبغي إعلانه.

وشاهدت الإسرائيليين على الحاجز الإسرائيلي، وأنا أتوقّف للتدقيق. فكدت أضحك وضبطت نفسي وسألتها: لمَ الضحك؟ إنهم غرباء يلوبون بعيونهم باتجاه عيني، يحاولون قراءة شيء لا يستطيعون قراءته بغير العيون. محاولة يائسة تحمل العيون أكثر مما تحتمل. وقلت: بعد أن تكفّ بندقية المحتل عن إطلاق النار يصبح أعزلَ وغريباً، وهو يحاول تشغيل عيونه كما يفعل الغرباء. وقلت: الأكثر غربة في الغرباء عيون الغرباء وأخذت الأوتوستراد إلى صيدا وأنا أفرج عن ضحكتي. قلت: الاحتلال يبدو أحياناً مضحكاً.

(من كتاب «حبيبتي الدولة»، الدار العالمية، 1985)



تعليقات: