أحداث الحرب العالمية الثانية في المنطقة: الفصل الخامس.. الإندفاع نحو صيدا


يوميات الحرب العالمية الثانية (حملة لبنان و سوريا).

- سرد مفصّل لوقائع الحرب العالمية والأحداث التي رافقتها خلال احتلال قوات الحلفاء للبنان وسوريا، الدولتان الخاضعتان في حينه لسيطرة حكومة فيشي الفرنسية التابعة لقوات المحور.

- وقائع ويوميات المعارك التي حصلت في بلدات الخيام، مرجعيون، إبل السقي وغيرها من القرى والبلدات والمدن اللبنانية

– محاور الغزو والخطط والخلفيات السياسية والتاريخية والعسكرية

كتاب موثق بالصور و الخرائط مهم جدا للباحثين والعسكريين والمهتمين بالأحداث التاريخية يستمر عرضه (حصرياً) على موقع Khiyam.com على فصول...

بترجمة وتحقيق من المهندس جلال يوسف عبد الله.

----------- ----------- -----------

الفصل الأول من وقائع الحرب العالمية الثانية في منطقتنا: خلفية الصراع على لبنان وسوريا

الفصل الثاني من وقائع الحرب العالمية الثانية في منطقتنا: الإعداد للغزو

الفصل الثالث من وقائع الحرب العالمية الثانية في منطقتنا: اليوم الأول من الغزو

الفصل الرابع من وقائع الحرب العالمية الثانية في منطقتنا: محاولة عبور الليطاني

الفصل الخامس: الإندفاع نحو صيدا

مرت ثلاث أيام على إنطلاق الحملة السورية، و عِوضاً عن التقدم الواثق والسريع نحو عدو ضعيف، تحولت الحملة إلى مواجهات دامية مع فرق عسكرية جيدة الإعداد والتحضير، فقد صُدَّت القوات المهاجمة من يمين الجبهة على الرغم من تعرض المدافعين لضغط شديد من الفرقة الهندية بأمرة للويد.

أما في الوسط فقد أُحْبِط الهجوم بمجرد إقترابه من خط الحدود.

و في ناحية الشمال و بعد إحراز بعض التقدم، أندلعت مواجهات دامية مع عدو مستعد و متموضع جيداً في مواقع دفاعية حصينة مستحدثة ضمن تضاريس شعاب ضيقة موزعة بين الساحل و الجبل ما أتاح لهم بسهولة صد الهجوم و وقفه.

وفي ليل العاشر من حزيران، و بعد ليلة مؤرقة و مسيرة طويلة بمحاذاة الليطاني، تمكنت الكتيبة 2/27 من الوصول إلى الطريق العام جنوب عدلون و أنصارية، وعليه، و عند منتصف الليل، أعطى الكومندور ستيفنس أوامره إلى الكولونيل مُوتن لقيادة هجوم حاسم و مباغت نحو قرية أنصارية بما لا يتيح للقوات الفرنسية المدافعة أي فرصة للراحة، و كان أفراد تلك الكتيبة قد أعياهم الجوع و العطش خلال ترقبهم لهذا لهجوم فطفقوا يتلهون بإمتصاص عصير الطماطم من الحقول المجاورة.

و بعد إشتباك إستمر حوالي ساعة و نصف عقب منتصف الليل، قاد مُوتن هجومه بواسطة سريتين من الجنود على رأس كل منها طليعة من المشاة، و بعد أن سيطر كابتن روو على الطريق المؤدي إلى القرية، أشار لجنوده لإتخاذ مواقع قتالية ثابتة لناحية يسار الطريق، أما كابتن وايت التي كانت مهمته متابعة ماكافي المتقدم من موقع عسكري يقع خلف مجموعة من الكهوف الفينيقية المحفورة في الصخر غرب عدلون، فإن مجموعته تعرضت لنيران غزيرة من مسافات قصيرة جداً نتج عنها مصرع أربعة من جنوده و جرح ستة آخرين كان من بينهم قائد القوة المهاجمة نفسه، كما أن مجموعة روو جرح منها أيضاً جنديين لحظة إعطاء إشارة الهجوم، و قد تبين لاحقاً أن النيران كانت تطلق على القوات المهاجمة من نفس ناقلات الجند التي ظُنّ أنها قد أعطبت في اليوم السابق.

و قد وقع خلال الإشتباك، و إثر إلقاء قنبلة يدوية على أحد المنازل المحتوية على خزان وقود، إنفجار كبير أدى إلى أندلاع نيرانٍ هائلة في المكان، بعدها أخذت القوات المهاجمة تتجمع حول موقع الأنفجار كما يجتذب الضوء الفراشات.

و بعدما استكشفت دورية النقيب جونسون الطريق قفلت عائدة حاملة معها تقارير عن مشاهدة ثماني مصفحات تتحضر للإنخراط في المعركة، فتم إبلاغ هذه التقارير المقلقة سلكياً للقائد ستيفنس الذي أمر روو بتجهيز مدفعين عيار 25 و أربعة مدافع هاون عيار 2 للمواجهة، كما أمره بالتحضر للإشتباك بدأً من الساعة 3.15 صباحاً.

في هذا الوقت جمع ستيفنس قواته و قادهم إلى مسافة لا تتجاوز 1200 ياردة من مركز قيادة الكتيبة 2/27، و بينما كان يتناقش مع المعاون الذي حل مكان ماونتن بالمسؤولية، شاهدا روو يهرع بملابس نومه و معطفه السميك متسلحا ببندقية الرشاشة و مهتدياً بضوء القمر نحو الطريق العام مطلقاً عياراته النارية مصوبا نحو دبابة شاهدها ترابط في محاذاة منزل حجري يقع على مسافة 200 ياردة منه، وإستمر الجندي موجها بندقيته نحو الآلية التي بدا أنها مهجورة في نفس اللحظة سمع دوي إطلاق نار من سلاح مضاد للدبابات و بندقية حربية على اثنا عشر دفعة متلاحقة نحو ذاك المنزل، بعده أحاطت بالمنزل قوة من المشاة و إقتحمته لتنجلي المعركة عن أربعة جثث لجنود فرنسيين.

و كان الكابتن سونغ، الذي تجنب الإقتراب من مناطق الإشتباك، قد تسلل بهدوء نحو هدفه، و بعدما تعذر عليه العثور على مجموعة ماكافي، تابع تقدمه دون مواجهة أي مقاومة مرسلاً في نفس الوقت من يبحث في كافة الإتجاهات عن باقي القوات، وبعد فترة وجيزة تبلغ أنها أضحت خلفه على مسافة 1200 ياردة.

و في تمام الساعة الثالثة و النصف، لاحت لماونتن فرصة لتطويق بعض القوات المعادية، فأصدر أوامره على الفور لقواته للزحف إلى المرتفع المطل على طريق الساقية، و في نفس الوقت أشار لقيادته و مجموعات الإستكشاف لتتخذ مواقع مشرفة على الطريق الساحلي بهدف قطع طريق الفرار على القوات الفرنسية التي قد يشتبك معها، و قد أدت هذه الخطة فعلاً لتحقيق إستسلام سريع لبعض من القوات الفرنسية المعادية، إثر ذلك عبر بقواته إلى المرتفعات الكائنة إلى يمين مجموعة ماكافي ليطبق بمساعدة من وايت على آخر منزل كانت تنطلق منه المقاومة، بعدها توجه سيراً على الأقدام نحو الجنوب متفقداً مؤخرة قواته.

و مع بزوغ الفجر، تلقت كل من الكتيبة 2/14 و سرية الفرسان الأوامر لمواصلة تقدمهما، و مع إكتمال بزوغ النهار، بلغت تلك القوات تقاطع طريق الساقية حيث تعرضت لنيران دبابة عدوة مدعّمة بمدفع مضاد للمدرعات، فأمر الملازم مل على الفور بمرابطة ثلاث مصفحات خلف إحدى التلال كتدبير إحتياطي، ثم قاد بعض آلياته المدعمة بطاقم مؤلف من السرجنت ادوارد و تروبر كلن نحو العدو مباشرة، و قد تمكن من شق طريقه، بعد تزوده بمدفع إضافي مضاد للدروع و بندقية برن و رشاش و بندقية آلية، نحو قمة تشرف على مواقع الفرنسيين المحيطة بالطريق العام حيث أنخرط معها في معركة ضارية أنسحبت على إثرها الدبابة المعادية، فركز مل نيرانه نحو المدفع المضاد للدروع ما أدى إلى مقتل أو تشتت طاقمه، وبعد ظنه أنه قضى على كامل القوة المعادية إنحدر مهرولاً نحو مواقعها لكنه فوجئ ببعض الجنود متوارين في أحد الخنادق، فحاول تدارك الموقف لكنه فشل حيث ألفى نفسه متسمراً وحيداً بينهم، و حين همّ برميهم بالرصاص، تعطلت بندقيته، لكن الحظ حالفه حيث تردد جنود العدو في إطلاق النيران عليه خوفاً من إرداء بعضهم بعضاً، و في تلك اللحظة الحرجة أدركه كرامب المندفع خلفه فباغت جنود العدو بهجوم ساحق أدى إلى استسلامهم الفوري، و كان من محصلة تلك الموقعة أن أسر مل و كرامب و كلن خمسة و أربعون جنديا من الفيلق الأجنبي، إضافة لإستيلائهم على خمسة مدافع رشاشة و مدفعي هاون و مدفعين مضادين للدروع كانت جميعها بحالة جيدة بما في ذلك ذخائرها الكاملة.

و في منتصف فترة الصباح، تمكنت القوة 2/14 من السيطرة على مواقع متقدمة على طول الطريق العام و المنحدرات المجاورة، في هذا الوقت كانت سرية الفرسان تتعامل مع مؤخرة القوات الفرنسية التي لم تبدي سوى مقاومة بسيطة بعد تكبدها تسعة قتلى و خمسة و أربعين أسيرا.

و في فترة بعد الظهر تمكنت القوات المهاجمة من أسر حوالي مائة جندي إضافي، كما تمكنت من أنجاز عبور الساقية و الصرفند و خأن سعد بنجاح.

و بعد خان سعد، تبلغت القوات المهاجمة من سرية الفرسان بمشاهدة موقع لمدفع رشاش و خمس دبابات في سفح الزهراني، و عليه أصبح لا بد من السيطرة على المثلث المؤدي إلى مرجعيون و المحاذي للهضبة المطلة على الطريق، و عليه أمر البريغادير ستيفنس المقدم كأنون قائد الكتيبة 2/14 بتولي السيطرة على هذا التقاطع، فأعطى كانون النقيب نونن و النقيب سلفرمان أمراً بالمهاجمة في نفس الوقت أمر قوة إحتياطية بقيادة النقيب هودن بالقيام بحركة إلتفافية حول الطريق العام.

لكن بعد أن عجزت قوة سلفرمان عن الوصول إلى مواقعها المحددة في الوقت المناسب، تم إجراء تعديل جذري على الخطة قضى بقيام هذه القوة بالهجوم من الناحية الغربية، على أن تتولى قوة هودن المهاجمة من الناحية الشرقية، و ما أن بدأ تحرك القوات عبر الحقول المزروعة بالذرة المنبسطة إلى جانبي الطريق، حتى تعرضت لزخات كثيفة من الرصاص و قذائف الهاون، ما دفع هودن إلى الإحتماء خلف الهضاب الصخرية المنتشرة شرق الطريق.

أما من ناحية الغرب فقد تمكن الملازم كوفن من التقدم بمجموعته وصولاً إلى مسافة خمسون ياردة من جسر الزهراني، في نفس الوقت تقدمت مجموعة أيتون عبر بساتين الموز وصولاً إلى مسافة مائة ياردة من الجسر حيث تعرضت هناك لوطأة نيران مركزة من قذائف الهاون.

و في الساعة السادسة و الربع، قامت ست دبابات معادية متسترة بحجاب من دخان القذائف بحركة التفافية بهدف تطويق طليعة القوات المهاجمة و إبادتها، و قد قذفتهم بالفعل بوابل من حممها و زخات غزيرة من الرصاص من عيارات مختلفة لمسافات قصيرة جداً، ما دفع بكانون لإصدار أوامره السريعة إلى سلفرمان بالإنسحاب، لكن هذا الأخير كان حصل و تعرض للإصابة، كما أصيب أيضاً أيتون و ستة آخرين من رجاله، و بعد إتمام الإنسحاب، تولى العريف ستايلي سحب و نقل أيتون إلى حيث يرابط الرقيب باكستون المتموضع للإسناد علماً أن هذا الأخير كان أيضاً قد تعرض بدوره للإصابة.

و على الرغم من تمكن المصفحات المهاجمة من تحقيق إصابات مباشرة في دبابات العدو إلا أنها لم تنجح في إسكاتها، فما كأن من ستيفنس إلاّ أن أمر موتن بتولي هجوم صباحي وافق الثاني عشر من الشهر، و قد باشر الهجوم بدءا من الساعة 3.30 صباحا بمحاولة السيطرة على الناحية الغربية من أرض المعركة، إلا أنه عاد و تلقى نصيحة من الكابتن باكلر المسؤول عن 2/14 بالمهاجمة من ناحية شرق قوات نونن.

و في الحادية عشر صباحا، صارعت قوات الرائد إسحاقشن لعبور التلال و النهر تحت نيران كثيفة من العدو، في نفس الوقت تمكن جونسون من عبور النهر إلى العدوسية حيث جرح، تلى ذلك توجه قواته نحو الحسّانية و المعمارية أسرا حوالي أربعين جندياً و مستولياً على بعض مدافع الهاون و البنادق الرشاشة.

في هذه الأثناء إضطرت الدبابات الفرنسية للتراجع على طول الشاطئ تحت وابل من القصف المدفعي، و بعد مرور زمن طويل من تبادل النيران بين القوة 2/27 و المواقع الفرنسية المرابطة شمال الزهراني، أطبق المهاجمون بعنف من الناحية الغربية على حامية الجسر و تمكنوا بعد معركة ضارية من السيطرة عليه و أسر حوالي ستين جندياً فرنسياً محتفظين بمواقعهم لحين قوات الإسناد و الدعم من ناحية التلال الشمالية الشرقية بقيادة الملازم راد، و مع حلول الظهيرة كان عدد الأسرى قد بلغ حوالي 200 جندي من جنود العدو.

و في حين فشل هجوم القوات الفكتورية في إحراز أي تقدم على الأراضي الساحلية المنبسطة، تمكنت القوة 2/27 من تعويض الفشل بإزالة ما يعتبر عائقاً جدياً امام مسيرتهم نحو بيروت.

فعند منتصف الليل تحركت دورية من ناقلات الجند بقيادة الملازم فاوست من القوة 2/27 إلى مسافة تقارب ثلاثة أميال بإتجاه الرزيّة إلى أن تعرضت للقصف الشديد، و كما فعل في عدلون، دعّم ستيفنس قوات مشاته بمدفعي ميدان بقصد تدمير دبابات العدو في حال تدخلها في المعركة، و بعد إنخراطه معهم في مواجهة عنيفة و رميهم برمايات مدفعية محكمة و دقيقة في أرض مكشوفة، قتل له نائب قائد الوحدة و أحد رماة المدفعية و جرح خمسة آخرون، كما أعطب له أحد المدفعين بينما تم سحب المدفع الآخر من المعركة.

و في رغبة منه للمحافظة على المساجد القديمة و القلعة الصليبية، أعطى ستيفنس تعليماته لمحاولة التفاوض مع المدافعين عنها لكن المدفعية الفرنسية ردت عليه بالنيران، فما كان منه إلا أن اعطى أوامره للرد.

و كما في صور و غيرها من المدن الفينيقية، فإن صيدا أنشأت على نتوء صخري حيث يختفي خلفه ميناء صغير، و في هذه المدينة إزدحمت منازل إحتوت على حوالي 12.000 مقيم وهو ما يعتبر أكبر مدينة واجهتها القوات الغازية في كافة مدن سوريا و لبنان حتى تاريخه، و قد إمتدت على شمال و جنوب المدينة و لمسافات تتجاوز خمسة أميال بساتين مزروعة بالبرتقال و المشمش و الموز و هذه الحقول محاطة بمعظمها بأسوار من الحجر الصخري بإرتفاع لا يقل عن المترين، و بعد عبور المسافرين نهر سينيق الكائن على بعد ميلين من جنوب المدينة، يتلوى طريق يمتد على طول الشاطئ في محاذاة البحر لمسافة ثمانية أميال تقريباً و بشكل يجعله عرضة للقصف بواسطة السفن البحرية التي أصبحت ترابط حالياً قبالة الشاطئ بإنتظار تعليمات من القوات المتقدمة عن الأهداف المطلوب قصفها، و قد كانت هذه البلاد من أجمل البقاع التي شاهدها الرتل المتقدم في كامل البلاد السورية.

قرر البريغادير ستيفنس إيلاء مهمة إحتلال صيدون إلى القوة 2/16 التي كانت تشكل قوة احتياطية لأربعة أيام مضت، و كان على القوة الاسترالية الغربية الإلتحاق بالقوة 2/27 في صباح اليوم الثالث عشر و عبور المدينة و المرابطة في وادي أبو الزير الذي يبعد حوالي ميلين عن المدينة.

و كان على سريتين من القوة 2/27 التقدم نحو درب السيم خلال ليل الثاني و الثالث عشر من حزيران و محاولة تحقيق تقدم إلى الجانب الشرقي منه، لكن خلال ليل الثالث عشر كانوا لا يزالون قلقين من الدور الموكل إليهم بسبب فشل كافة الجهود لتحقيق إتصال معهم.

كانت مهمة سرب الفرسان تقضي بحماية الجناح الأيمن للقوة 2/16 المكلفة بالتقدم لمسافة سبعة أميال نهاراً على جبهة واسعة و مفتوحة بقرار من العقيد ماكدونالد مدعّمة بكتيبتين أخرتين تتحركان خلفهما على مسافة لا تتجاوز ألف ياردة، و كانت الأوامر بأن تتقدم كافة القوات على شكل تشكيلات مفتوحة.

و قد باشرت طليعة القوتين، الأولى التي كانت بقيادة الكابتن هاني من ناحية اليمين و الأخرى بقيادة الماجور واين من اليسار، بهجومهما بدأً من الساعة العاشرة صباحاً تحت غطاء مركز من القصف المدفعي تولاه فوج المدفعية 2/4، و بعد تحقيق تقدم ناهز ميلين دون مواجهة أي مقاومة تذكر، تعرض واين لرشقات عدة من النيران الصادرة من ناحية جنوب وادي سينيق الذي يقع تقريباً في وسط المسافة بين نقطة الأنطلاق و صيدا، عندها بادر للقيام بحركة إلتفافية على القوات المعادية نتج عنها تلقائياً إنسحاب القوات المعادية، ثم قامت القوات المهاجمة بإعادة تشكيل ذاتها ثم إندفعت عبر البساتين وصولاً إلى مسافة لا تقل عن ميل واحد من أطراف المدينة حيث تعرضت مجدداً لنيران غزيرة، فبادر واين لقيادة مجموعة من الجنود كان ضمنها السرجنت ماكلوغ تولت مهاجمة نقطة العدو و إستطاعت السيطرة عليها و أسر سبعة جنود كانوا فيها بينما تابعت باقي المجموعات المهاجمة تطهير المواقع الأخرى المنتشرة في البساتين حيث تمكنت من أسر أربعون جندياً اضافياً.

و حوالي الساعة الثانية عشر و النصف ظهرت فجأة دبابتين فرنسيتين بادرتا على الفور لإطلاق نارهما بشكل عشوائي لكن دون تحقيق أي اصابات، ثم توارتا عن الأنظار، بعدها إستؤنف تقدم القوات شرقاً وصولاً إلى مركز المدينة حيث إستسلم ما تبقى من قوات العدو إثر مواجهات قصيرة.

وحوالي الساعة الثالثة ظهراً تقدمت بعض القوات إلى مسافة قريبة من هدفها المحدد، وادي أبو ذر، لكنها لم تتمكن من الإلتحام بباقي القوات المساندة المتقدمة من ناحية اليمين، ما أدى إلى إنكشاف الجناح الأيمن لواين فقرر معالجة الموقف على الفور عن طريق إنسحابه إلى ناحية ساقية الزيتون جنوب صيدا، حيث تمكن حوالي الساعة الخامسة و النصف من الإلتحام بقوات الدعم بقيادة مايجور كارو.

و قد تبين لاحقاً أن السبب وراء إنكشاف جناحه أنه حين بلغ كابتن أنك باين حدود المدينة، تعرض لهجوم مركز من عدة دبابات فرنسية قامت بعمليات تقدم و إلتفاف على القوات الأسترالية المتقدمة من الناحية الغربية ما دفعها للسعي للإختباء فتفرقت إلى مجموعات صغيرة، و قد أدت هذه المواجهة إلى مقتل هورلي و تبعثر قواته، و قد تابعت الدبابات تقدمها فهاجمت قوات الدعم ما أدى أيضاً إلى مقتل الكوماندر أنك باين و إنهزام قواته إلى سفح تل مجاور لناحية الشرق.

تولى إثر ذلك الكابتن ماكنزي قيادة ما تبقى من الجنود لم يتعدى عددهم سبعة عشر جندياً محاولاً دفع المهاجمين إلى الإنسحاب عن طريق قذفهم بالقنابل اليدوية و رميهم بنيران الرشاشات المضادة للدبابات و البنادق مسلطاً نيرانه نحو فجواتها، لكن كافة تلك الوسائل لم تعط نتيجة، و حوالي الساعة السادسة، إنسحب مع رجاله نحو الطريق العام، فترددت الدبابات الفرنسية عن ملاحقتهم خشية تعرضها لنيران مدفعية الميدان من القوات المساندة.

و قد تولى اللوتانت ملز من سلاح الفرسان، الذي تلقى أوامر بمواجهة تلك الدبابات، مواجهتها مستخدما مدفعي ميدان و عدد من الرشاشات المضادة للدبابات التي بادرت إلى الرمي عليها من مسافة ناهزت ثمانمائة ياردة، لكن هذه الرمايات كانت بلا فعالية لبعد المسافة و تعطل أحد المدفعين، ما دفعه إلى القتال في مساحات مفتوحة و من على مسافات لا تتعدى ألف و ثلاثمائة ياردة، لكن مسؤول سلاح المدفعية الملازم مارزدم تعرض للإصابة و تعطل أسلحته المحمولة على آليات ما دفعه للتراجع بعد إرساله سيارتين مفخختين بالمتفجرات لصدم و نسف القوات المهاجمة، إلا أن إحدى تلك السيارتين أصيبت و أنفجرت ما دفع الثانية للتراجع و الإنسحاب.

بعد ذلك عرض ملز على أربع من قادة آلياته التطوع لإستدراج دبابات العدو إلى أماكن مكشوفة مما يسهل عليهم مهاجمتهم و تدميرهم، فقاد كل من اللوتانت راي و السرجنت مايجور بالدوك و سرجنت إدوارد و سرجنت ستيوارت آلياتهم نحو ضفة النهر عبر بساتين الليمون و حثوا قوات كارو على الإنسحاب بعد تأمين تغطية نارية لهم على الرغم من محاولة الدبابات المعادية منعهم، لكنهم نجحوا في نهاية المطاف بالإنسحاب.

لاحقاً في المساء تم إرسال اللوتانت لوكاس مزوداً بمدفعين من الفوج الرابع للتعامل مع الدبابات التي تسببت بهزيمة هورلي، فهاجم بالمدفع الأول خمس دبابات من مسافة تقارب الألف ياردة و أجبرهم على التراجع، بينما جهز المدفع الثاني لمساندة القوات المنسحبة عند الحاجة، بعد ذلك تقدم لوكاس بمفرزة المدفعية إلى قمة أحد الهضاب و ثبت مدفعيته عليها بحيث كانت تتدخل بالمعركة كلما حاولت الدبابات المنسحبة العودة للإنخراط بها، و كرر هذه المناورة طوال اليوم، لكن طيران العدو تدخل بالمعركة قاصفاً مواقعه و مواقع قيادة الكتيبة المهاجمة.

و كما جرى ذكره سابقاً، فان المجموعتين الرئيسيتين من الكتيبة 27 اللتين وقع عليهما عبء قيادة الهجوم كانتا مرهقتين جداً بعدما تخطيا جنوب سينيق و عبرتا التلال إلى الناحية الشرقية من الطريق، كونهما لم يحصلا على أي راحة منذ عبورهما الحدود منذ خمسة أيام.

و في اليوم الثاني عشر وصل موتن إلى إستنتاج أنه عوض الإصطدام مباشرة بقوات العدو، من الأفضل له القيام بحركة إلتفافية عبر التلال نحو المية و مية و منها ينزل مباشرة إلى صيدا من الجانب الشرقي، و عليه أخفى قواته عن الأنظار داخل الأخاديد المنتشرة في المكان إلى حين حلول المساء حين تمكن من الإتصال بطلائع قواته في المواقع التي وصلت إليها، بعدها أمر ستيفنس ما تبقى من قواته بالتقدم عبر التلال المشرفة على سينيق نحو درب السيم ثم مهاجمة صيدا من ناحية مرتفعاتها، و عليه بدء تحرك القوات حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر من الحسانية، و حوالي الساعة الخامسة تم التوجه شمالاً نحو درب السيم، و قد عانى المشاة طوال الليل من مخاطر و مشقات السير فوق الهضاب في الظلام الدامس إلى حين بزوغ القمر حوالي منتصف الليل، و لم يتسنى للمهاجمين الراحة إلا يسيراً خصوصاً حوالي الساعة الحادية عشر مساء بعد توقف الطيران المعادي عن الإنقضاض المتكرر عليهم.

و قد بلغت طلائع المهاجمين درب السيم حوالي الساعة الرابعة من صباح الرابع عشر من حزيران، لكن أفرادها كانوا متعبين، فسمح لطليعتهم بالإنسحاب تمهيداً للتحضير لهجوم عبر سينيق، و قد تقرر إنطلاق الهجوم عند الساعة التاسعة و النصف صباحاً عبر الهضاب المواجهة لسينيق من ناحية درب السيم، و كان هدف الهجوم قرية المية و مية حيث يوجد مبنى كبير مسقوف بالقرميد يرتفع كشاهد في المكان، في هذا الوقت كانت مجموعة إسحاقشن المتسللة تسلقاً للهضاب وصولاً إلى خط الهجوم تعاني من الإرهاق الشديد بحيث أن واحد من أصل كل اربعة رقباء عانى من الإنهيار التام تعباً ما منعهم من الإشتراك بالقتال، و عليه تم منح القوات فترة إستراحة لا تتعدى عشرون دقيقة، ثم حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر أعطيت الأوامر للإندفاع نحو الأهداف الموضوعة للمعركة، و ما أن بلغ المهاجمين عمق وادي ينحدر مائتي قدم و يبعد مسافة لا تتعدى ألف و خمسمائة ياردة من خط الإنطلاق، حتى تعرضوا لقصف مدفعي شديد من مدافع الميدان و رشقات غزيرة من الرشاشات الثقيلة ما دفع جنود اللوتانت كرافتر المتقدمة من ناحية اليسار للإنبطاح أرضاً بعدما صرع منهم عدداً لا بأس به أثناء هبوطهم إلى قعر الوادي، لكن ماكفرسون و رجاله تمكنوا من القفز و الهرولة مسرعين حيث بلغوه دون تعرضهم لأي إصابة، ثم حرفوا مسيرهم عن مرمى رشقات مدفع رشاش كان يمطرهم بالرصاص من دشمة تمت إقامتها داخل الدير، بعدها أنطلقوا نحو واد قريب حيث تسللوا منه إلى القرية من ناحية الشرق بعد تسلقهم الناحية الشمالية منه.

و قد فوجئت القوات المدافعة بوصول ماكفرسون و جنوده الذين لم يزد عددهم عن سبعة عشر جندياً ما دفع بهم، و هم البالغ عددهم أربعة و عشرون جندياً من الجنسيات الأوروبية للإستسلام، و قد عثر ماكفرسون خلال هذه العملية على حوالي أربعين بغلاً محملاً بالعتاد فتكهن أن العدو كان يجهزهم للإنسحاب، بعدها باشر بنشر قواته تحضيراً للخطوة التالية، فأرسل مجموعة نحو الدير لإتخاذ مواقع دفاعية فيه و الإشراف على جبل العبابي، وهو عبارة عن تلة تقع للناحية الشمالية منه، كما أرسل عدّاءً إلى قيادته ناقلاً إليهم تقريراً عن الموقف، و أرسل أيضاً مجموعة بقيادة العريف موريس من فوج القناصة نحو القرية حيث تمكنت من محاصرة و إلقاء القبض على عشرة جنود للعدو، ثم تولت هذه المجموعة تأمين ما تشرف عليه من أراضي لناحية الشرق، بعدها قاد ماكفرسون بنفسه دورية نحو الدير حيث تولى صرع أربع عناصر من الفيلق المعادي، لكنه لسوء الحظ وقع ضحية عدم التنسيق مع قوات أسترالية أخرى من نفس كتيبته كانت تتقدم من الجهة الجنوبية للقرية معتقدة أنها تقدم له إسناداً نارياً، فأدرك حينها أن الهجوم من ناحية اليسار قد فشل و أن قيادته لم تحط علماً بالتطورات و أنه أضحى مسيطراً على المية و مية، و عليه إحتفظ بأسراه الستة و ثلاثون، ثم أرسل في الساعة التاسعة صباحاً نصف عناصره إلى سينيق، ليتبعهم بنفسه بعد حوالي نصف ساعة مصطحباً معه جريحاً واحداً فقط من عناصره، و هكذا يكون هذا الجندي المجرّب قد أبلى بلاءً حسناً محققاً أهدافه بما في ذلك قتل أو أسر حوالي أربعون جندياً من العدو دون تعرضه لأي خسائر تذكر.

" من الآن فصاعداً سوف نقاتل جنباً إلى جنب" صاح ماكدونالد مغتبطاً بإنجاز ماكفرسون في المية و مية، " فبفضل حِنكتِك و بندقيتي سوف نحقق آمالاً كثيرة في هذه الحرب".

في هذا الوقت، و كما ذكرنا آنفاً، فإن تقدم دوريتي إسحاقشن على الجناح الأيمن كان مضنياً جداً، و قد أدى هذا لاحقاً إلى تحطمهما السريع، فبعد مهاجمة موقع المدفع الرشاش الذي كان يطلق زخاته من الدير نحو الوادي حيث كانت تجري محاولة للتقدم مسافة مائة ياردة عبر الحقول المكشوفة، تعرض كل من إسحاقشن و الليوتانت كرافتر للإصابة و قتل اللوتانت راد، و قد واصل بعض من تبقى من الجنود تقدمهم نحو الوادي لإنقاذ قادتهم، أما البعض الآخر فقد إحتمى خلف أشجار الزيتون، و بحلول الظلام، إنسحب المهاجمون مخلفين ورائهم خسائر قدرت بثلاثة و عشرون جندياً.

في هذا الحين تمكن العدو من تجميد القوات المتقدمة من الجانب الأيسر من القرية بعد إمطارها بنيران غزيرة و ساعدهم في ذلك صعوبة التضاريس المحيطة بهم.

إلا أنه خلال الليل تمكنت دورية بقيادة الكوبورال خوسيه من بلوغ القرية، في نفس الوقت كان الكابتن لي لا يزال يتعرض للإعاقة بسبب النيران الفرنسية الكثيفة، لذا قام بتحويل مساره إلى ناحية الشرق، حيث تمكن من بلوغ هدفه بحلول الساعة الواحدة ظهراً، لكنه حين حاول الإنحدار نحو سفح التل، تعرض مجددا لنيران كثيفة من المدفعية و الرشاشات الثقيلة التي كانت متمركزة على مسافة لا تتجاوز ألف و مائة ياردة من موقعه، و هي مسافة بعيدة لا تسمح لزميله برنز برد فعال عليهم، ما أادى إلى جمود قواته مجدداً.

و هكذا بينما كانت القوات المهاجمة من ناحية اليمين تحرز تقدما ملحوظاً، كانت باقي القوات تدور حول نفسها بسبب تعرضها للقصف المدفعي الكثيف البعيد المدى من مواقع الفرنسيين.

و في يوم الرابع عشر من حزيران كانت الكتيبة 2/16 لا تزال رابضة في البساتين جنوب مدينة صيدا، و في الساعة الرابعة و النصف بعد الظهر، تعرضت لهجوم مضاد قامت به القوات الفرنسية بواسطة ثمان دبابات تتقدمهم قوة من المشاة إنطلقت من محيط الكلية الأمريكية.

و قد رصد البريغادير ستيفنس إندلاع المعارك و هجوم الدبابات، فبادر إلى فتح النار من مرابض مدفعيته من مسافة تقارب أربعة آلاف ياردة ما أدى إلى إصابة و إعطاب دبابتين مهاجمتين فأُفشل الهجوم، بعدها تم إجراء تقييم للموقف، فتبين للوهلة الأولى أنه خلال يومي الثالث و الرابع عشر من حزيران لم يتم تحقيق أي نتائج ملموسة، لكن في الخامس عشر منه، و بعد ورود التقارير من ماكفرسون عن إنسحاب العدو من المية و مية، تبدل الموقف و إندفع موتن بقواته لإحتلال القرية و الدير الذي كان يحتوي على مركز قيادة القوات الفرنسية دون أن يسجل في طريقه أي مقاومة تذكر، و سريعاً قدر أن الفرنسيين باشروا فعلاً بإنسحاب شامل من المنطقة، و عليه أرسل حوالي الساعة التاسعة صباحاً دورية تابعة للكتيبة 2/27 نحو تلة مار الياس حيث وجدتها خالية من الأعداء، ثم تبين له في الواحدة و النصف أنه تم إخلاء الكلية الأمريكية أيضاً، و قد تكهن موتن أنه تم إخلاء كامل مدينة صيدا أيضاً ،حينها نزع السرجنت جونز خوذته و عدته، و إمتطى دراجة نارية و قادها نحو الشارع الرئيسي للمدينة، لكن دراجته ما لبثت أن تعطلت، فأجبر اثنان من السكان السوريين على معاونته و إرشاده، و ما أن قفل عائداً حوالي الساعة الحادية عشر و ربع حتى إندفع موتن إلى المدينة و دخلها برفقة بضعة عناصر من قيادته، حيث قابل رئيس البلدية الذي أعلمه أن الفرنسيين إنسحبوا من المدينة تحت جنح الظلام و إلتمس من موتن وقف قصف السفن الحربية البريطانية لمدينته خصوصاً الأحياء الشمالية منها، عندها طلب موتن سيارة أجرة و إتجه إلى مركز قيادة ستيفنس حيث قدم له تقريراً بآخر التطورات، فدخل هذا الأخير المدينة حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر حيث إستلمها رسمياً من رئيس البلدية و أعلن خضوعها لحكمه العسكري.

و في هذا الوقت كانت قوة الخيالة 2/16المهاجمة تكتشف أيضاً حصول الإنسحاب، و عليه باشر قائدها اللوتانت هاربر بدخول المدينة مستعرضاً في شوارعها قواته المنهكة و الملطخة ملابسها بالوحول، و بعد أن نشر قوة محدودة فيها تابع تقدمه ليتخذ مواقعاً قتالية في مواجهة وادي أبو زار، و لم ينقض وقتاً طويلاً عليه في مواقعه الجديدة حتى تبين له أن الفرنسيين لم ينسحبوا فقط من مدينة صيدا، بل أنهم نفذوا إنسحاباً كبيراً أيضاً من كامل محيطها و لمسافات بعيدة جداً بحيث أخلوا كامل الشاطئ وصولاً إلى راس النبي يونس، إضافة إلى الطرق الممتدة عرضاً نحو شمال المدينة وصولاً إلى الصالحية و الجميلية و سبلين، و عليه تمكن الجنود المهاجمين أخيراً من التنعم ببعض الراحة و الإغتسال، كذلك من تناول بعض الطعام الساخن لليال متوالية بعد بلائهم بلاءً حسناً بمهماتهم، لكن الأحداث التي كانت تجري في ساحات أخرى كانت تستدعي من المهاجمين التوقف ملياً أمامها.


الفصل السادس

ترقبوا الفصل السادس تحت عنوان "الإندفاع نحو مرجعيون و جزين"





تعليقات: