مجموعة من الجنود الاستراليين بعد سيطرتهم على ثكنة الخيام
في أصيل يوم الثامن من حزيران، واجه البريغادير ستيفنس، قائد الجبهة الساحلية، معضلة مشابهة لتلك التي عانى منها في اليوم السابق، فبعد انتهاء فوج الهندسة من إصلاح طريق الاسكندرون، كان عليه تجاوز عقبة أخرى مماثلة، وهي إنقاذ جسر الليطاني من التدمير.
وبالرغم من شدة الأنواء البحرية، تلقى ستيفنس أوامر صارمة بضرورة عبور الليطاني قبل الساعة الرابعة من فجر التاسع من حزيران مع تعليمات تقضي بإرساله أربع إشارات ضوئية في حال تحقيقه هدفه، وإلا فان قوات المغاوير ستتولى ذلك بدءا من الساعة الرابعة والنصف صباحا.
وكتدبير احتياطي، أصدر ستيفنس أوامره لمساعده لوتانت كولونيل ماكدونالد من الكتيبة السادسة عشر لتنظيم هجوم وقائي في الساعة الخامسة صباحا في حال فشل مهمة المغاوير، فبادر ماكدونالد إلى توزيع المهمات بين أفراد مجموعاته بحيث أوعز للكابتن جونسون مهمة إنقاذ الجسر بعد أن الحق به فصيل من القوارب الشراعية لاستخدامها عند الاقتضاء، كما أوكل لجونسون مهمة عبور النهر، وللمايجور كارو التقدم إلى محاذاة الشاطئ لتوفير غطاء ناري لقوات المغاوير لحظة تنفيذ عملية الإنزال.
لكن ما الذي حصل خلال عملية الإنزال ؟
في صباح يوم السابع من حزيران، أبحرت السفينة الحاملة للجند " غلينجيل " وعلى متنها اثنا عشر ضابطا وأربعمائة جندي من ميناء بور سعيد، بمرافقة حامية من السفن الحربية، وبوصولها إلى مسافة أربعة أميال من الشواطئ اللبنانية، باشر طاقمها تحضير وملء قوارب الإنزال، إلا أن الخشية من غرق القوارب بسبب الأمواج العاتية التي تعالت مع بزوغ القمر دفعت بالقيادة البحرية لتأجيل العملية والعودة إلى بور سعيد.
وفي الساعة الثالثة والربع من صباح التاسع من حزيران، أبحرت السفينة " غلينجيل " مجددا برفقة طراد بحري ومدمرتين، تجاه موقع الإرساء مقابل الليطاني، حيث قسمت القوات المهاجمة إلى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى شكلت بقيادة المايجور كاييس طليعة الهجوم المقرر شمال الليطاني، والمجموعة الثانية بقيادة الكابتن مور وكانت مهمتها تثبيت وإحكام السيطرة على جبهة شمالي الليطاني، أما المجموعة الثالثة فمهمتها الدعم عند الاضطرار.
ولسوء حظ القوة المهاجمة، فان تراكم الكثبان الرملية عند مصب النهر أدى إلى حرف موقع الإنزال إلى مسافة ميل ونصف جنوب الليطاني حيث تراوح عرض مجرى النهر بين ثلاثين وأربعين ياردة، وكانت كلتا ضفتيه مغطاة بجروف صخرية مكسية بأشجار الحور، اما الطريق الساحلية المجاورة فكانت تلتف أسفل هضبة تبعد نحو ألف ياردة عن الشاطئ، ثم تعبر جسرا من القناطر الحجرية، لتتجه بعدها شمالا عبر سهول مزروعة بأشجار الفاكهة والذرة، وكان يشرف على تلك الطريق هضبة أخرى مرتفعة حوالي خمسمائة قدم أقام عليها الفيشيين دفاعات حصينة.
وقد خططت القوة المهاجمة فور إتمام إنزالها للتقدم تجاه الجسر على أن تتولى مجموعة منها مهاجمته والسيطرة عليه بينما تتولى القوة الباقية إسنادها، إلا انه وقبل لحظات من انطلاق الهجوم، أتاهم بلاغ من احد عناصر الاستطلاع أنبأهم فيه بان الجسر قد نسف ودمر تماما، ما أدى إلى إحباط الهجوم المقرر ودفعهم للتخطيط لعبور النهر بواسطة القوارب.
وبعدما اضطرت طليعة القوة المهاجمة إلى الانكفاء والاحتماء بسبب من وابل الرصاص أمطرتها به مجموعة من جنود العدو كانوا مرابطين بين بعض شواهد أضرحة مقبرة تقع في محاذاة ضفة النهر، وصلت قوارب العبور فقرر جونسون تسريع العملية لخشيته من تفاقم سرعة جريان النهر التي بلغت في حينه حوالي خمسة عقد، وعليه أصدر النقيب هرمن، مساعد جونسون المسؤول عن القوارب، ذو الجثة الضخمة والثقة العالية بالنفس، أوامره لبعض رجاله لجمع حبال القوارب وأسلاك الخطوط الهاتفية من الطريق المجاور وربطها ببعضها البعض لتشكل حبلا طويلا خاض به العريف هادّي، امهر سباحي الفرقة المهاجمة، غمار النهر واستطاع، بالرغم من إصابته الشديدة بشظية من إحدى القذائف التي انهمرت عليه، من الوصول إلى الضفة المقابلة حيث تمكن بصعوبة من شدّ وثاق الحبل إلى احد الجذوع، وفي حين هبّ لنجدته العريف داستين، طلب هرمن بعض المتطوعين للعبور في أول القوارب، فصعد على الفور إلى متنه العريف والش وثمانية رجاله من صحبه (الجندي باد غرفن، لن اوبراين، آل ريان، تشوك فاولر، بوبي ويلسن، بلو مولوني، تشامي غراي وفرانك موراتي) وجميعهم كانوا كباقي عناصر القوة، باستثناء قائدهم والرقيب المساعد، من كالغوري حيث ارتادوا نفس المدرسة، ولم يسبق لأي منهم أن اعتلى قارب أبدا في حياته، إلا أنهم في تلك اللحظة هبّوا إلى متنه جميعا كل منهم مع بندقيته وحمولته الثقيلة من الذخائر، وقد تمكن هؤلاء، بعد بذل جهد كبير، من إقناع قائدهم هرمن بالتخلي عن فكرة مرافقتهم لضيق المكان وخوفهم من غرق القارب بهم لثقل وزنه، ثم وما أن أصبحوا في خضمّ النهر حتى انطلق الرصاص يأزّ فوق رؤوسهم والقذائف المدفعية تنفجر حولهم، إلا أنهم تمكنوا في نهاية الأمر من عبور النهر دون وقوع أية إصابات ليباشروا بعدها على الفور عملية انتشار وانقضاض على مواقع الفرنسيين التي كانت تتخفى بين أكوام الأعشاب والخيزران.
وما أن تمكن بقية رجال سابلت من العبور حتى تساقطت القذائف على الضفة الجنوبية من النهر، ما أدى إلى مقتل جونسون وإصابة اثنين من قادة القوة المهاجمة وهم ميتشم وسيمنغتون، إضافة إلى هرمن الذي أصيب في أربعة أنحاء مختلفة من جسده، لكنه على الرغم من ذلك تابع قيامه بمهمته إلى أن أصيب مجددا.
وحوالي الساعة السادسة والنصف، كان سابلت الضابط الوحيد الذي نجى من الإصابة، وعليه وبعد أن تمكن من إتمام إنزال جماعته على الضفة الشمالية من النهر، اندفع مهاجما مخترقا عيدان الخيزران وبساتين الفاكهة مرغما العدو على التراجع وانتشر في مواقعه الجديدة مشكلا رأس جسر بعمق لا يقل عن أربعمائة ياردة.
وبعد تأخر لبعض الوقت بسبب ثقل الإصابات في صفوف الضباط وكثافة النيران الفرنسية العدوة، تمكن فصيل ثان من القوات بقيادة الرقيب فيليبس من عبور النهر، مما رفع عدد القوات التي عبرت النهر إلى حوالي خمسين عنصرا، بعدها جاء أمر من ماكدونالد لهورلي بالتقدم مهما كلف الأمر، ما أدى إلى مضاعفة محاولات العبور وتواصلها تحت وطأة القنابل والرصاص، فتمكن هورلي، مستعينا بقارب سابلت، من العبور بصحبة ستة من عناصره، تلاه بعدها ستة آخرون وهكذا حتى أصبح عدد العابرين سبعون جنديا، بعدها ظهر قرب الشاطئ مدمرتين فرنسيتين (غيبارد وفالمي) باشرتا على الفور قصف القوات الاسترالية جنوب وشمال النهر، وقد استمرتا على هذه الحال إلى أن بدأ فوج المدفعية الاسترالي بالرد عليهما، عندها أطلقتا بعض القذائف الدخانية الحاجبة ثم سارعتا إلى التواري عن الأنظار، وقد حاول أسطول الأدميرال كنغ الذي هبّ على وجه السرعة لتقديم النجدة العثور على هاتين المدمرتين دون جدوى، لذا أبقى أربعة مدمرات مرابطة قرب شاطئ النهر وتابع بحثه عنهما إلى أن وجدهما راسيتين مقابل ميناء صيدا، فانخرط معهما مباشرة بمعركة ضارية أدت لإصابة المدمرة الإنكليزية جانوس وفرار المدمرتين الفرنسيتين شمالا.
وفيما كان رجال سابلت، الذين سبق وتعرضوا لقصف مدفعي شديد من المدمرتين الفرنسيتين، يشتبكون مع المواقع الفرنسية المواجهة عند رأس الجسر الذي سيطروا عليه، طلب هورلي من احد معاونيه العودة إلى الضفة الأخرى من النهر لمقابلة ماكدونالد واحاطته علما بوضعهم العسكري طالبا منه دعما مدفعيا يتيح له التصدي لأي هجوم معاكس، في هذا الوقت تمكن رقيب الإشارة برايت من تمديد خط هاتفي عبر النهر على الرغم من شدة النيران المنهمرة عليه، في نفس الوقت رصد الكابتن غرانت موقع مراقبة للعدو مطل على النهر، فأمطره، بمساعدة لانس مورفي وثلاثة من جنوده، بوابل من النيران.
وفي الصباح الباكر، وبعد التمهيد للتقدم بواسطة قصف مدفعي مركز استمر لحوالي عشر دقائق، تمكن فصيلين تابعين لهورلي بقيادة كل من الملازمين اتكنسون والفيكس من عبور النهر بشكل خاطف وسريع ثم شنّا هجوما صاعقا فوق ارض مكشوفة ومموهة جيدا مخترقين مواقع العدو وتحصيناته، وقد قع لهما خلال هذا الهجوم عدة إصابات، منها تلك التي لحقت بالجندي كولس الذي نجح بقطع أسلاك اتصالات العدو قرب مواقعه المتقدمة، كما نجح كل من العريفين ويكد ودانكن من قطع خطوط الاتصال في قطاعهما أيضا، وبعد حوالي خمسة وعشرون دقيقة من انطلاق الهجوم تسنّى للمهاجمين إحكام السيطرة على كامل القطاع الغربي من الجبهة خصوصا تلك الواقعة على الكتف المشرف على النهر (تبين لاحقا أن الجنود الجزائريون كانوا قد قاموا بتلغيمه)، ونتج عن هذه المعركة ثلاثون قتيلا في صفوف العدو إضافة إلى اسر ثمانية وثلاثون منهم، كما أدى إلى وضع اليد على احد عشر مدفعا رشاشا، ولم يقع في صفوف القوات المهاجمة سوى ثلاثة جرحى فقط.
ومتشجعا بالنجاح الذي أحرزه، قرر هورلي مواصلة هجومه على باقي مواقع العدو خصوصا تلك التي لا تزال تتبادل النيران مع سابلت، لذا وبعد أن أمطرها بقصف مدفعي مركز لمدة وجيزة، انقضّ عليها بهجوم صاعق واحتلها موقعا في صفوفها اثنا عشر أسيرا، وقد سيطر خلال هذا الهجوم على مدفع خمسة وسبعون مليمتر ومدفعين رشاشين، وقد اعترف له احد الأسرى بان قوة من الكتيبة الثانية والعشرين الجزائرية تكمن لهم على التلة المحاذية، لذا وضع جنوده (الذين أصبحوا عمليا تحت إمرة رقيب أو عريف) بحالة جهوزية لصد أي هجوم معاكس.
في هذا الوقت، وخلال محاولة فرقة المغاوير التابعة لكاييس المرابطة على الشاطئ التقدم نحو النهر تعرضت لرشقات كثيفة من النيران، وما أن هرع كارو ورجاله لنجدتهم عبر انزالات بحرية بواسطة القوارب، حتى تعرضت بدورها لصليات من النيران أدت لإصابة القوة المساندة بخسائر فادحة قدّرت بحوالي خمسة وعشرون بالمائة من مجموع قوتها ما جعلها عاجزة عن التقدم والرسو على لشاطئ باستثناء واحد منها فقط، بعدها نجح كل من العريف دلوورث والجندي ارشيبالد من العبور بواسطة قاربيهما المليئين بالمغاوير والجنود الاستراليين، وعند منتصف النهار تمكنت هذه القوة من السيطرة على موقع فرنسي منيع كان يتحكم بالنهر، وتم خلال المواجهة أسر خمسة وثلاثون جنديا من جنود العدو، بعدها بقليل أفلحت مجموعة كاييس في إتاحة الفرصة لأحد الفصائل التابعة لكارو بالعبور، وحوالي الساعة الرابعة أرسل ستيفنس كابتن لونغوورث، وهو ضابط مراقبة متقدم، إلى كارو مع أوامر بضرورة مبادرته لتنفيذه هجوم فوري على مواقع العدو، مستعينا بإسناد من المدفعية، للسيطرة على الأراضي المرتفعة المطلة على الطريق شمالي النهر، ولكن حين وصوله إلى الضفة الجنوبية ومشاهدته مدى الإرهاق والتعب الذي حلّ برجال كارو، قرر العبور بنفسه إلى الضفة المقابلة للمساهمة في تدعيم وتعزيز القوات المرابطة هناك، وحين أصبح على المقلب الآخر من النهر، وجد أن كاييس لا يزال محافظا على رباطة جأشه على الرغم من موقفه الميداني الصعب والمواجهات المباشرة التي يخوضها مع العدو، في هذا الوقت كان رقيب الإشارة يحاول جاهدا الاتصال لاسلكيا بفوج المدفعية دون جدوى، بعدها تمكن كارو من نقل باقي قواته عبر النهر، وحوالي الساعة الخامسة والنصف نجح رقيب الإشارة التابع للونغوورث بإجراء اتصال بالقيادة حيث تبلغ انه يجري الإعداد لهجوم كبير يبدأ الساعة التاسعة والنصف مساء سيجري التمهيد له بعدة انزالات من قوات المغاوير شمال النهر، وبالفعل نفذت فرقة مغاوير الكومندور بدّر، الذي تشكل قوة كاييس جزأ منها، إنزالا على مسافة ميل ونصف شمال النهر، لكن جنود تلك القوة وقعوا فريسة نيران موقع فرنسي قريب، فخاضوا معهم تجربة قتال شرسة وقاسية كان من نتيجتها مقتل قائد قوة المغاوير بدّر واثنان من ضباطه، وفي حين تمت محاصرة إحدى المجموعات، حاول باقي العناصر الانسحاب جنوبا تجاه الليطاني في محاولة للانضمام للقوات الاسترالية المرابطة هناك.
في هذا الوقت كانت مجموعة ثانية من المغاوير بقيادة مور تنفذ إنزالا آخر على مسافة ميلين ونصف شمال الليطاني، لكنها وقعت بدورها في كمين قرب قرية كفر بدّا حيث خاض أفرادها معركة يائسة اضطروا بعدها للاستسلام قرب قرية العيتانيه.
و هكذا تكون قوات المغاوير العاثرة الحظ قد أخرجت من المعركة بسبب سوء التنسيق بين قياداتها حيث لم تتح المقابلة الوجيزة التي تمت بين ستيفنس وبدّر لدقائق معدودة في الناصرة الوقت الكاف لإتمام التنسيق بينهما مما جعل كل منهما يغادر إلى ارض المعركة بشعور من القلق وعدم الارتياح.
و قد أدت هذه التطورات لإحباط معنويات ستيفنس خصوصا حين لمس ضعف خطوط ربطه الميدانية مع نصف قواته العالقة شمال النهر، لذا أصدر أوامره لقواته بوجوب تحرير الطريق نحو الأراضي المرتفعة ابتداء من الساعة التاسعة والنصف، على أن يتولى مهندسوه في نفس الوقت بناء جسر من القوارب يتيح لباقي قواته عبور النهر ثم التحرك قدما حين تسمح لهم الفرصة بذلك.
في هذا الوقت كان كورلي يضغط إلى الأمام محاولا إحراز بعض التقدم، وحوالي الساعة التاسعة، تمكن مزيد من القوات التي انتقلت إمرتهم إلى الكابتن ماكنزي، بعد إصابة قائدهم هوبكنسون صباحا، من العبور إلى الضفة الأخرى، وفور وصولهم أعطيت الإشارة لهورلي بالتقدم والسيطرة على المواقع الفرنسية عند المرتفع الغربي، وقد بدأ هذا الأخير تحركه الفعلي حوالي الساعة السابعة والنصف لكنه جوبه بنيران غزيرة من رشاش ثقيل أوقع بين عناصره قتيل وجرح له آخر هو الملازم لانغريدج آمر إحدى الفصائل التابعة له، إلا أن هورلي وبمساندة من العريف سادلر انقضّ بنفسه على موقع الرشاش الفرنسي وسيطر عليه بعد أن اسر حاميته المؤلفة من ستة رجال.
و هكذا سيطر المهاجمون تحت جنح الظلام على أعلى المرتفعات الكائنة على مسافة خمسمائة ياردة جنوب ثكنة كبيرة للفرنسيين كائنة إلى غرب الطريق، وتمكنوا خلال تلك العملية من اسر سبعة عشر جنديا بما في ذلك سبعة ضباط، لكن لسوء الحظ فشل هورلي بتحقيق اتصال هاتفي بمكدونالد لإعلامه بآخر التطورات الميدانية، وحيث انه كان يعلم أن المواقع التي سيطر عليها ستكون وشيكا عرضة للقصف المدفعي دون أن يتوفر لديه وسيلة أخرى لإيقاف ذلك، فقد اضطر لسحب رجاله والتراجع إلى خلف الخطوط التي كان احتلها آملا العودة صباحا لبسط سيطرته عليها من جديد، بعدها حاول جاهدا إعلام قيادته بآخر المستجدات لميدانية إلا انه ابلغ بان الخطة الموضوعة سيتواصل تنفيذها وفقا لما هو مرسوما لها، مما خلف لديه شعورا بان ما أنجزه رجاله وما قدموه من تضحيات لن يكون موضع تقدير من قادته.
و بعد مضي بعض الوقت باشرت السفن البريطانية بقصف المرتفعات التي كان سبق لهورلي وبسط سيطرته عليها مما فرض عليه سحب رجاله إلى مواقع آمنة، وفي تمام التاسعة والنصف تساقط حوالي ستمائة وتسعون قذيفة مدفعية على المرتفعات المطلة على النهر، بعدها تقدمت قوات هوني نحو القطاع الغربي من الجبهة حيث سيطرت على المواقع التي سبق وأخليت صباحا، أما لناحية الشرق فان قوات المايجور ازاتشنس عبرت على موجات متواصلة يتألف كل منها من ستة رجال استخدمت كلها نفس القارب إلى حين أصبح عدد العابرين يوازي فصيلين مسلحين، حيث بادر هؤلاء لمهاجمة مواقع العدو مستخدمين المدفعية والبنادق الرشاشة، وتمكنوا في نهاية الأمر من اسر جميع الجنود الجزائريين المرابطين على خط الجبهة مما اتاح لهم الفرصة لإنقاذ حوالي عشرون عنصرا من المغاوير المحاصرين.
بعدها عثر المهاجمين في بعض المغائر الفينيقية المحفورة في الصخر على مسافة نحو ميل من النهر على كميات كبيرة من الطعام والأسلحة والذخائر الحربية.
في هذا الوقت كان المهندسون بقيادة الملازم وات قد أنجزوا خلال الليل إنشاء جسر على مسافة لا تزيد عن أربعمائة ياردة من الجسر الحجري المدمر بعد الاستعانة بثمانون جنديا من المشاة، وحوالي الساعة الخامسة صباحا من اليوم العاشر، تمكن الجنود والآليات من العبور بأعداد كبيرة على زوارق التجسير إلى الناحية الشمالية من النهر.
في العاشر من شهر حزيران أمر ستيفنس رجاله بمواصلة تقدمهم على الطريق الرئيسي بدعم من سلاح الفرسان بقيادة الملازم مل، كما أرسل قوة أخرى غربا لتمشيط وتنظيف المرتفعات المحاذية للطريق العام حيث وصلت هذه القوة إلى قرية صريفا ومن بعدها إلى كفرصير حيث دخلتها بعد مشادة مع بعض أهاليها، في هذا الوقت أرسل مل المتقدم شمالا بعض قواته نحو قرية أنصار حيث التقت ببعض العناصر من جند السلطان (سباهي) كانوا ينقلون بعض العتاد على البغال تلى ذلك تعرضهم لإطلاق نار من بعض العربات الفرنسية المصفحة والمجهزة بأسلحة مضادة للدبابات.
و في العاشرة صباحا وصلت ناقلات الجند إلى محاذاة الأبنية السكنية في قرية عدلون حيث تعرضت لإطلاق نار كثيف من رشاشات خفيفة، وشاهد الجنود بالعين المجردة أن مصادر النيران كانت من دبابتين مرابطتين هناك، وحين عالجهم مل ببعض قذائف الهاون دون تلقيه أي رد، تقدم إلى البلدة فوجد أن الفرنسيين أخلوها تاركين ورائهم أربع دبابات في حالة جيدة، بعدها تعرض بعض الجنود لإطلاق نار من ناحية الشاطئ، فتقدمت ناقلة جند للتعامل مع مواقع النيران لكنها أعطبت وقتل اثنان من طاقمها وجرح ثالث ووقع في الأسر، عندها قام الرقيب ستيوارت الذي يقود الناقلة الثانية بمناورة التفافية هاجم بعدها الموقع الفرنسي من لخلف بواسطة مدفع رشاش من نوع " فيكر " ما اضطر عناصر الحامية للفرار.
في هذا الحين التقى الملازم غلاسكو المتقدم نحو أنصار بحوالي خمسين جنديا ابيض البشرة من الفرنسيين قرب قرية كفر بدّا الواقعة على مسافة نصف ميل من الطريق العام، وبعد إطلاقه بعض الرشقات النارية عليهم، كفّ جنود العدو عن القتال حيث انسحب قسم منهم والقسم الباقي استسلم، وبعد وضعه الأسرى في عهدة مختار القرية، عاد غلاسكو وحاول ملاحقة باقي القوة لأسرها، لكنه تعذر عليه ملاحقتهم بسبب لجوئهم إلى بعض الهضاب العالية، بعدها تابع مسيره نحو أنصار حيث أعلمهم زعيم القرية أن الفرنسيين أخلوها قبل يومين.
و على الرغم من تراجع القوات الفرنسية شمالا، بقي عدد من المواقع يقاوم بشدة حتى الصباح بعد أن تمركز أفرادها في بعض المواقع الحصينة على التلال الشرقية بمحاذاة الطريق الساحلي، وأدت تلك المقاومة إلى إيقاع خسائر فادحة في صفوف القوات المهاجمة (كان من بين تلك الإصابات سابلت نفسه)، وكانت قوة العدو، المعززة بثلاثة عشر مدفع رشاش، مركزة في منطقة الواسطة، ما اضطر القوات المهاجمة للتخندق وانتظار القصف المدفعي الذي انهمر بعد فترة وجيزة عليها من مدفعية الميدان والسفن الحربية ما اضطر المدافعون للانسحاب، وبذلك يكون العدو قد أخلى تماما الطريق الساحلية وصولا حتى عدلون، مع احتفاظه بمواقعه في الأنصارية، وتكون القوات المهاجمة قد أتمت السيطرة غربا وصولا إلى قرية أنصار، في المقابل كان الخيالة البريطانيون قد بلغوا قرية كفرصير وبذلك تحقق الاتصال الأول بينهم وبين القوات الاسترالية المتقدمة عبر القاسمية.
و بنتيجة هذه المعركة، توصل قادة الجبهة الساحلية في الجيش الاسترالي لاستنتاج بأنهم، على الرغم من تدمير الجسر وفشل إنزال المغاوير والحواجز الدفاعية العسكرية والطبيعية التي واجهتهم عند خط الليطاني، فان تماسك أعصابهم وروح المبادرة التي تحلى بها قادتهم وانضباط ومسلكية الجنود وشجاعتهم والقصف المدفعي البحري المساند لهم وانهيار الروح المعنوية لدى جنود العدو كل ذلك مكنهم من إحداث خرق رئيسي كبير على هذه الجبهة وبالتالي تحقيق إنجاز عسكري مهم سيفخرون به لدى عودتهم إلى بلادهم.
أما في قطاع مرجعيون، فان اللواء الخامس والعشرين كان في مأزق حرج بسبب المقاومة الشرسة التي يواجهها، وعليه دعّم لافاراك كوكس بكامل قوات الاحتياط المتوفرة لديه مضافا إليها الكتيبة 2/33 وطلب منه أن يحاول في فجر التاسع من حزيران مهاجمة مرجعيون من ناحية الشرق والاستيلاء عليها.
و على الرغم من ضيق الوقت المتبقي لساعة الصفر فان نقل الكتائب المطلوبة وتنظيم الهجوم بدء على الفور، وعليه تجمعت الكتيبة 2/25 في منطقة دفنا، وفي ليل الثامن والتاسع من حزيران، تقدمت إحدى سراياها نحو المطلة، ثم تقدمت صباحا، بمعونة سريتين أخريين واكبتاها عن يمين الكتيبة 2/33، وصولا إلى مسافة ألف قدم أسفل هضبة ابل السقي.
في هذه الأثناء، أي في الصباح الباكر من التاسع من حزيران، اقتحمت سرية كوتون ثكنة الخيام بعد التمهيد لهجومها بقصف مدفعي مركز فوجدتها مهجورة وخالية تماما، فتابعت السرية زحفها نحو البلدة وصولا إلى شمالها حيث تم صدها ودفعها للتقهقر إلى الأطراف الجنوبية للبلدة بعد تعرضها لكمين غير متوقع من قبل قوات فرنسية كانت متربصة لها في حقول الحنطة خلف خطوطها الأمامية، وفي حين كانت الحرائق تندلع وأعمدة الدخان الكثيف تتصاعد من ساحة المعركة، كانت الكتيبة 2/31 المساندة تتعرض بدورها لقصف مدفعي شديد ومواز مصدره قرية الخربة ومواقع أخرى مجاورة من ناحية الغرب ما أدى إلى شللها وتعطيلها عن الحركة طوال النهار.
في صباح التاسع من حزيران، بدأت ترد لقيادة بوتر أولى النتائج عن مهمة الرقيب دايفيس المكلف مهمة حماية جسر الليطاني الكائن جنوب غرب مرجعيون من التدمير، وكان دايفيس، مع أربعة من الجنود القناصة ومهندسين اثنين ومرشدين من الفلسطينيين، قد انطلقوا في مهمتهم هذه، منتصف ليل السابع من حزيران، من قرية المطلة، وبعد عبورهم مناطق السيطرة الفرنسية لنحو ثلاث ساعات، شاهدوا خطا هاتفيا عائدا للعدو فقطعوه، بعدها تسللوا مرتين على الأقل قرب تحصينات العدو ومخافره دون التنبه لهم، وحين مشارفتهم مسافة خمسمائة ياردة من الهدف المنشود، انطلق مسدس احد المرشدين خطأً ما أدى إلى إصابته بجرح في وركه، ولحسن الحظ لم يسمع الفرنسيين صوت تلك الرصاصة، وقد أصر الفلسطيني المصاب بعد تضميد جرحه على إتمام مهمته قائلا " هيا بنا لأريكم الجسر " ثم أشار بيده كمن يطعن قلبه بالحربة : " بعدها فقط يمكن أن أموت ".
و ما أن وصل أفراد المجموعة المتسللة، حوالي الرابعة والنصف من بعد الظهر، إلى جوار جسر صغير يبعد حوالي أربعمائة ياردة عن الجسر الرئيسي، حتى علا نباح كلب كان يدنو منهم بصحبة خفير، فانبطح أفراد المجموعة أرضا، بعدها قرر دايفيس محاولة مغافلة الحارس حين يصبح على بعد ياردات منه وصرعه دون إطلاق رصاص، إلا أن هذا الأخير اخذ، حين اقترب منهم، يصيح بصوت عال ثم امتشق بندقيته وثبتها على كتفه وصوب نحوهم في حركة دائرية متأرجحة وأطلق لنار، لكنه اخطأ الهدف، في نفس اللحظة رد عليه العريف هوبكينز وخمسة من رفاقه بالمثل، فترنح الجندي إلى جانب الطريق ومعه اثنين أخريين من رفاقه الذين هبا لنجدته، وتوارى الثلاثة داخل أخدود مجاور، بعدها مباشرة حصل تبادل قصير لإطلاق النار، تلا ذلك مهاجمة دايفيس ورجاله بالسلاح الأبيض لكوخ صغير كان يستخدم كموقع حماية للجسر من الناحية الشرقية من النهر حيث فاجئا في بابه جنديين فرنسيين هرعا بثياب النوم محاولين رفع الغطاء عن مدفع رشاش، فدفعاهما للاستسلام، ثم انطلق دايفيس مسرعا مع احد رجاله نحو الجهة المقابلة من النهر حيث سيطرا على غرفة حرس أخرى وأسرا جنديين آخرين بعد قذفهما بقنبلة يدوية، بعدها بحث دايفيس واثنين من مرافقيه المهندسين عن أسلاك التلغيم والحشوات المعدة لتفجير الجسر، فعثرا عليها وقطعا الأسلاك والقوا بها مع المتفجرات في النهر، ثم اصطحب دايفيس رجاله والأسرى الأربعة والمدفع الرشاش وخمسة بنادق كان استولى عليها نحو حافة هضبة عالية تشرف على الجسر من لناحية الغربية.
و في الوقت الذي بدأ فيه الهجوم الرئيسي لقوات الحلفاء، أي حوالي الساعة الخامسة، عمل دايفيس على تعزيز سيطرته على موقعه المشرف على النهر لكي يكون، في حال الحاجة إليه، نقطة ارتكاز لتدبير أي هجوم مستقبلي قد تقوم به كتيبته على الجسر الرئيسي، وقد تناهى له من موقعه على تلك الهضبة أصداء انفجار القذائف المدفعية وفرقعات الرصاص وهدير محركات الطائرات المشاركة في المعركة، كما لحظ في أسفل الوادي جموعا غفيرة من المدنيين المذعورين تهرع مبتعدة عن ساحة المعركة نحو الشمال، بينما كانت قوافل القوات الفرنسية تتقدم جنوبا، وقد حاول دايفيس، وهو جندي بالفطرة، مخادعة تلك القوات عن طريق إيهامهم بوفرة عدد رجاله المتحصنين على تلك الهضبة عن طريق تحريكهم بمناورة مدروسة من صخرة إلى صخرة ومن أكمة إلى أخرى بشكل ظاهر للعيان.
و حوالي السادسة والنصف، تقدم على الطريق رتل طويل من لآليات الفرنسية بلغ عدده سبعة وخمسون آلية، إلا أنهم ما لبثوا ان قفلوا فجأة عائدين، وحوالي السابعة والنصف، ثبّت الفرنسيين ثمانية رجال على الهضبة الشرقية المطلة على النهر بهدف الدفاع عن الجسر، ثم عزز هؤلاء بدفعات جديدة من الجنود، وفي الثالثة ظهرا، دمر الفرنسيون الجسر الصغير، وحوالي الرابعة نسفوا الجسر الرئيسي، بعدها بساعة شاهد دايفيس جنديا استراليا يتقدم متعثرا على الطريق المؤدي إلى موقعهم وهو يرتدي سترة واقية من الرصاص، فسارع دايفيس نحوه لمكالمته، فتبين له انه العريف فلتهام وهو من نفس وحدته العسكرية، وكان فلتهام قد أصيب في رأسه خلال المعركة التي جرت قرب الخربة في الليلة السابقة، ما أدى إلى شروده عن فرقته، فاعلمه دايفيس انه أضحى خلف خطوط العدو، وطلب منه محاولة العثور على معبر نهري ضحل ليعبره وينضم إليه، وبعد حلول الظلام انتقل دايفيس وصحبه من الجنود والأسرى إلى نقطة تبعد مسافة ثلاثة أرباع الميل أسفل الجسر، وفي اليوم التالي عبروا النهر متقدمين تجاه الجنوب متخذين الطريق الرئيسي مسارا لهم، وبعد سير وجيز شاهدوا مجددا فلتهام على الجهة المقابلة من النهر لكنه هذه المرة كان مصحوبا بخمسة جنود استراليين، فأوعز دايفيس لأحد رجاله بالتقدم وخوض غمام النهر سباحة ساحبا معه سلك هاتفيا طوله خمسين قدما سبق له أن فصله قبل ليلتين عن شبكة اتصالات العدو، وبعد أن شدّ الجندي السلك إلى جذع شجرة متينة، عبر فلتهام ورفاقه النهر مستعينين به، ثم روى لهم، وهو رابط الجأش هذه المرة، انه بعد أن أمضى ليلته السابقة على الضفة المقابلة من النهر عاجزا عن عبوره، طالعه حسن الحظ صباحا وعثر على طريق عودته إلى فرقته، بعدها استحصل من قائده على إذن لاصطحاب مجموعة من الجنود لمحاولة العثور على دايفيس والعودة به مع صحبه سالمين وهو ما تحقق بالفعل، بعدها سار الجميع بمحاذاة مجرى النهر عابرين منحدرا يتصل بهضبة دير ميماس شمالا حيث تعرضوا لبعض زخات الرصاص والقذائف المدفعية، ثم استطاعوا الالتفاف بعيدا عن مسرح المعارك الجارية وصولا إلى تقاطع طرق كان قد اتخذه الكولونيل بورتر مركزا قيادته.
أثبتت أحداث التاسع من حزيران صعوبة الموقف الذي يواجهه الجنرال كوكس، فكتائبه كانت تتقدم على ارض مكشوفة تحت ضوء بدر ساطع، وكان من الممكن عمليا لحفنة من ناقلات جنده الاندفاع بسهولة قدما، لكنها بذلك ستكون عرضة للتدمير من الدفاعات المعادية، أما على الجانب الآخر فكان لدى الفرنسيين قوات كبيرة مجهزة جيدا ومدعمة بالمدفعية ومعدة بإتقان لصد أي هجوم سواء من الوسط أو من الأطراف، وكانت هذه القوات موزعة على دشم صغيرة حصينة من الحجر الصخري مبنية بشكل يسمح لها بدقة تحديد مدى مرمى نيرانها، وبشكل يتيح لها إعاقة أي محاولة لإمداد طلائع القوات المهاجمة بالذخائر والغذاء.
و كان لافاراك قد اختبر فعالية قصفه المدفعي لثكنة الخيام، لذا أمر بنقل إمرة الفوج 2/6 من كوكس إلى باريمان، ثم جعل كلا الفوجين 2/6 و2/5 تحت إمرته المباشرة في محاولة لتهيئة قواته للزحف نحو بلدة مرجعيون وتأمين موطئ قدم له فيها قبل تنظيمه لهجومه الحاسم النهائي عليها.
و في العاشر من حزيران بدء التمهيد لاختبار قوة العدو، لذا، وبناء لاقتراح من باريمان، أمر لافاراك قوة مؤلفة من مصفحة من سلاح الفرسان وستة ناقلات جند بالتقدم صباحا تحت أمرة الملازم ميلارد نحو الخربة لاستدراج العدو للاشتباك، وكانت خطته تقضي بان يتقدم الملازم فلورانس في الوسط على طول لطريق المؤدي إلى قرية الخربة إلى أن يصل إلى مكان مناسب للتمركز والانتشار، بعدها يتقدم ميلارد بناقلاته عن يمينه على أن يؤمن له الرقيب غروف توجيه الدعم المدفعي في حال انكشافهم للعدو.
و بعد نجاح فلورانس بالتقدم إلى سفح الهضبة التي تربض عليها قرية الخربة دون أي مقاومة تذكر، تعرضت آليات ميلارد لنيران العدو، فأصيب له في الموجة الأولى من القذائف العريف اوسوي المسؤول عن أجهزة اللاسلكي مما حال دون متابعته القيام بمهمته، ما دفع بميلارد لرفع إشارة الانسحاب بيده نظرا لكثافة النيران التي اخذوا تعرضون لها، وبينما كان ميلارد يتقهقر إلى الوراء متبادلا إطلاق النار مع مواقع العدو بواسطة رشاش فيكر، أصيبت آليته بقذيفة مدفعية مباشرة وانفجرت، فأخلاها بسرعة وسعى للاتقاء خلف بعض الصخور المحاذية قليلة الارتفاع، في هذا الوقت حاول العريف لامب، سائق الآلية المصابة، الوصول إليها مجددا لإصلاح أجهزة الاتصال فيها وطلب الدعم، لكنه وجدها مدمرة تماما.
و بعد فترة وجيزة انهالت القذائف المدفعية الاسترالية على مواقع العدو المنتشرة على أطراف القليعة والخربة، فاستغل فلورانس ورجاله الظرف وسعوا لتقديم نجدتهم لميلارد بعد أن ركنوا آليتهم إلى جانب الطريق، وبعد أن قطع فلورانس مسافة مائة ياردة تقريبا راكضا وسط الطريق تجاه الآلية المشتعلة ملوحا بمسدسه ومناديا ركابها، وجدها خالية تماما، فقفل مسرعا عائدا إلى آليته، عندها بادر زميله الرقيب مارتن للبحث عنهم متقدما بآليته بحذر متسترا خلف بعض النتوء الصخرية لمسافة مائتي ياردة تقريبا إلى أن عثر عليهم مختبئين خلف كومة من الأحجار منهكين نظرا للقصف المستمر عليهم منذ ساعة ونصف تقريبا، فنقلهم جميعا بما فيهم العنصر المصاب إلى موقع أكثر أمانا، وقد أدت هذه الواقعة إلى إعطاب كافة آليات ميلارد باستثناء اثنتين منها، كما أدت إلى إصابة وجرح ثمانية عشر من رجاله، وظهرا عاود كوكس حث ميلارد على الالتحام مجددا مع العدو في محاولة للتمهيد لهجوم مشاته المخطط بدءه قرابة الساعة الثانية من صباح اليوم التالي، إلا أن هذا الأخير طالبه باعتاقه من هذه المهمة نظرا للخسائر الفادحة التي تعرض لها.
في بداية الغزو، أرسلت السرية 2/33 العاملة بإمرة النقيب بنيت نحو قرية الفرديس لاحتلالها والسيطرة عليها، إلا انه منذ ذلك التاريخ انقطعت أخبارها تماما عن قيادتها، كما انقطع عنها ما كان يحصل من تطورات ميدانية في نواحي الخيام ومرجعيون.
و كانت تلك القوة قد عانت من صعوبات جمة في العثور على مسارها المقرر نحو شبعا الذي لم تبلغه إلا مع طلائع الفجر، فبعد مسار طويل امتد طوال النهار عبر المرتفعات السورية والأودية أدرك بنيت أخيرا قرية الهبارية قبل مغيب النهار بقليل (كان مقدرا في الخطة الأساسية أن الزمن اللازم لبلوغ الهبارية هو أربع ساعات فقط، إلا أنها استغرقت فعليا أربع وعشرون ساعة تقريبا)، وفي خراج القرية التقى بنيت بعض المواطنين السوريين الذي سبق لهم السفر إلى أمريكا، وقد حذره هؤلاء من وجود عدد من الفرسان الفرنسيين في القرية ليلا، فأرسل بنيت بعض جنوده لاستطلاع الموقف، ثم بدء من الساعة الثامنة صباحا من يوم لتاسع من حزيران حرك قواته تجاه الفرديس للسيطرة عليها، على أن يتم بعدها توسيع رقعة انتشاره نحو لطريق العام الكائن غرب البلدة، لكن ما أن اقتربت تلك القوات من القرية، حتى تعرضت لإطلاق نار من مدفع رشاش تم تركيزه شمالها، فعمد بنيت لمواصلة تقدم قواته بحذر بعد أن أعاد تقسيمها إلى ثلاث فصائل حيث اصطحب معه فصيلين لمهاجمة البلدة، وأبقى على فصيل خلفي كانت مهمته حماية وتغطية تقدمهم من الهبارية، وعلى الرغم من استمرار تعرضه لرمايات بعيدة من الرشاشات الفرنسية، استطاع مواصلة تقدمه إلى أن أتم سيطرته على تلة تشرف على جانبي مفترق الطريق العام حيث شاهد من بعيد صفا من البغال محملة بالذخائر ومتجهة بصحبة بعض الجنود الفرنسيين نحو قرية ابل السقي، وفي اليوم التالي وبينما كان بانتظار تعزيزه بقوات إضافية، تعرض لهجوم من قوة فرنسية ناهز تعدادها كتيبة كاملة قدمت على عجل من حاصبيا وانتشرت سريعا ثم باشرت بتنظيم هجمات متلاحقة على مواقعه من ناحية الشمال، وقد تعرض بنيت خلال ذلك اليوم لثلاث محاولات هجومية متتالية على الأقل، منها واحدة تعرض لها عند العاشرة صباحا، وأخرى عند الرابعة بعد الظهر، وفي كل مرة كان الملازم كوب ذو الخبرة العالية بالقتال، ينجح بجر القوات المهاجمة إلى مسافات قريبة من مواقعه، ثم يعمد لإمطارهم بنيران أسلحته موقعا بهم العديد من القتلى والجرحى ما يدفعهم للتقهقر إلى مواقعهم الخلفية.
أما في المرة الثالثة، فقد واجه رجال بنيت حوالي خمسين خيالا انقضوا عليهم بشكل مفاجئ عبر التلال من ناحية حاصبيا فتمكنوا من الاقتراب إلى مسافة مائتي ياردة تقريبا من احد مواقعهم الكائن عند أطراف القرية الجنوبية حيث ترجلوا سريعا وباشروا هجوما ضاريا عليه، فاستبسل عناصر الموقع في لدفاع عن مركزهم ما أدى إلى هياج بعض الخيول ودفعها للجري تجاههم عبر الوادي.
و في صباح اليوم التالي، تعرضت قوات بنيت مجددا لهجومين آخرين من ناحية الطريق العام، توغل بعدها المهاجمون داخل القرية حيث قطعوا خطوط المياه واسروا ستة من رجاله المضمدي الجراح، بعدها أصبح وضع بنيت حرجا للغاية كونه أضحى محاطا بالعدو من ناحية الخلف حيث يرابط العدو على الطريق العام، ومن الأمام حيث ينتشر بين بيوت القرية، تلى ذلك تلقى بنيت عرضا من قائد القوة الفرنسية لمقابلته بواسطة مواطن سوري تقدم من مواقعه، فرد بنيت الرسالة طالبا من القائد الفرنسي الحضور بنفسه متعهدا له بالأمان، إلا انه لم يتلقى أي رد على عرضه ذلك.
و في اليوم الرابع، لم تتعرض قوات بنيت لأي هجوم، إلا أنها كانت عمليا محاصرة بالنيران من جهة، ومن دوريات الخيالة من جهة أخرى، وحوالي الثانية عشر إلا ربع ظهرا، اقترب رجل إفريقي على صهوة جواده نحو مواقعهم دون أن يدرك على ما يبدو ما كان يجري على الأرض، فتركه كوب حتى دنا منه ثم بادره بإطلاق الرصاص على حصانه، بعدها هرع إليه العريف مارشال محاولا أسره، فعاركه بالأيدي عراكا شديدا مصحوبا بحماس وتشجيع كبيرين من رفاقه الاستراليين، إلا انه عجز عن إخضاعه فابتعد عنه متيحا الفرصة للجندي نوريس لإردائه قتيلا.
في الثاني عشر من حزيران، أي بعد مرور أربعة أيام على انطلاقه مهمته، بدأ بنيت بإعادة تقييم ومراجعة موقفه، فهو تمكن من المحافظة على مواقعه المشرفة على الطريق العام لأربعة أيام متتالية دون تعزيزه بأية قوات إضافية، ودون أي يتكون لديه أي فكرة عما كان يجري في قيادته التي كان أخر اتصال أجراه معها من قرية الهبارية في الثامن من حزيران عير الأجهزة اللاسلكية، وكان جنوده قد أضحوا بحالة إنهاك تام دون أن يتوفر لديهم أي غذاء يقتاتون به سوى بعض قناني المياه والمعلبات التي زودهم بها في اليوم التالي لانطلاق مهمتهم، لذا اتخذ بنيت قراره بالتخلي عن مواقعه والعودة للالتحاق بقيادته، فأوعز لجنوده بالراحة حتى حلول الظلام بعد أن قسمهم إلى عدة مجموعات، ثم أصدر أوامره لمجموعتي كوب ودرواير بالانطلاق أولا، تلى ذلك مباشرة مجموعة الحماية المرابطة في الهبارية.
و بينما كان كل من كوب ودرواير يسلكان طريق العودة، انطلق مارشال بدوره من الهبارية متخذا له نفس المسار الذي كان قد سلكه سابقا خلال قدومه اليها، وكان بنيت وأفراد قيادته قد قرروا التريث قليلا لحين تأمين عبور باقي المجموعات على أن ينسحبوا بدورهم مع بزوغ ضوء القمر نحو راشيا الفخار والخريبة، وما أن أتم بنيت استعداداته للمغادرة، حتى فوجئ بدورية فرنسية تتخذ لها مواقعا على بعد ياردات قليلة منه، فاختبئ فورا مع رجاله ثم انسلوا بسكون وصمت بين التلال والصخور وصولا إلى مواقع قريبة من سفح راشيا الفخار حيث خيموا طوال الليل، ثم تابع بنيت سيره تحت جنح ظلام اليوم التالي إلى أن تمكن من الوصول إلى مركز قيادته حيث وافاه هناك باقي أفراد مجموعاته الذين سبق لهم الوصول خلال النهار، وبذلك يكون بنيت قد نجح بإعادة كافة رجاله سالمين باستثناء الجرحى الستة الذين سقطوا في الأسر في الفرديس، وقد استاء القائد موناغان استياء شديدا لضياع فرصته بالاستفادة من هؤلاء الرجال لسوء وسائل الاتصال بهم، لذا عمد لإعادة تكليف بنيت بتهيئة كتيبة جديدة أفضل إعدادا وتجهيزا من القوة السابقة.
وعلى الجبهة الصحراوية، تتبع الكولونيل كوليت اللواء الخامس الهندي نحو شيخ مسكين، ثم واصل تقدمه نحو السفوح البركانية الشرقية حيث وجد أن استخدام الخيول قد يكون مفيدا له أكثر من العربات الآلية، وفي العاشر من الشهر تمكن من بلوغ " نجحا " على " نهر العوجة " حيث اسر بعض الجنود، بعدها اصطدم مع بعض المشاة السنغاليين الذين كانوا مجهزين ببعض العربات المصفحة والدبابات فأرغموه على التراجع حوالي ستة أميال إلى الوراء، لكنه ما لبث أن تعرض في الحادي عشر من الشهر لهجوم جديد تمكن من إحباطه بواسطة مدفع مضاد للدروع.
و كانت طليعة القوات الفرنسية الحرة المؤلفة من قوات البحرية والسنغاليين قد تقدمت في التاسع من الشهر نحو شيخ مسكين بعد أن زودهم ايلويد بمدفع مضاد للطائرات وبطارية مدفعية لتعويض النقص في عتادهم، وفي الليل، سيطر لونغتلهوم على " خان دينون " و" دير علي " وأصبح على تماس مباشر مع المواقع الفيشيية، هناك انتظر طوال يومي العاشر والحادي عشر قدوم بعض التعزيزات من السنغاليين ثم هاجم " كزوي " التي يدافع عنها قوات مغاربية.
انزعج الجنرال دي فرديلاك من التقدم السريع للقوات الفرنسية الحرة نحو دمشق فقرر خوض معركته عند تخوم نهر العوجة، وعليه بدأ بإعداد ساحة معركته للمواجهة المنتظرة، فحرك إليها في التاسع من الشهر فوج القناصة السادس الإفريقي والفيلق 6/11 من المقاتلون الأجانب المدرع، وضم اليهما في الحادي عشر من الشهر فوج القناصة الإفريقي السابع والفيلق 1/6 من الجنود الأجانب ليكون قد تجمع لديه في الثاني عشر من الشهر ستة كتائب قتالية وفيلقين من الأجانب والأهم من ذلك غالبية الجنود المشاة والدبابات المتوفرة لجيشه ما بين جبل حرمون والصحراء إضافة إلى ثلاثة كتائب من التونسيين في جبل الدروز وقسم من فوج الخيالية الرابع والعشرون الذي استقدمه من ناحية طرابلس مع مجموعة من القوات الجزائرية مدعمة بسبعة بطاريات مدفعية للدفاع عن ناحية الليطاني، وفي العاشر من حزيران عاد دي فرديلاك وأرسل الكتيبة العاشرة من القوات الأجنبية إلى قطاع الصحراء ليكون قد أتم استعداداته للمعركة بقوات تمنحه أفضلية كبرى على خصومه، مع استمرار احتفاظه بقوات احتياطية مدرعة.
الفصول السابقة:
الفصل الأول: خلفية الصراع على لبنان وسوريا
الفصل الثالث: اليوم الأول من الغزو
الفصل الرابع: محاولة عبور الليطاني
الفصل الخامس.. الإندفاع نحو صيدا
الفصل السادس.. الإندفاع نحو مرجعيون وجزين
الفصل الثامن.. الهجوم الفرنسي المضاد، الانسحاب من مرجعيون ومعركة الجلاحية
رسم زيتي لمدخل ثكنة الخيام
تعليقات: