الفصل الأول: خلفية الصراع على لبنان وسوريا


تمهيد

عند إجراء مراجعة شاملة للأوضاع العسكرية السائدة عام 1941، يظهر لنا جليا صعوبة الفصل بين ما كان يحصل في حينه في منطقة الشرق الأوسط وغيرها من الأحداث الخطيرة المتسارعة الجارية على الساحة العالمية.

فنتيجة للانهيار السريع للجبهة اليونانية تحت وطأة الهجمات الصاعقة للقوات الألمانية، وسوء الأوضاع القتالية على جبهة كريت، واهتزاز الدفاعات البريطانية على كل من جبهات طبرق والصحراء الغربية وسيناء، منيت القوات البريطانية البرية العاملة تحت قيادة الجنرال ويفل والمؤلفة من عشر فرق عسكرية كانت منتشرة على طول خطوط الجبهة بخسائر فادحة أدت إلى شللها وتخفيض فعاليتها القتالية إلى النصف تقريبا.

فقد أبيد معظم عناصر فرقتي الخيالة والبريطانية السادسة، وفقدت كلتا الفرقتين النيوزلندية والاسترالية السادسة أسلحتهما الثقيلة، ووقعت الفرقة الاسترالية التاسعة المرابطة في طبرق تحت الحصار، أما باقي الفرق فهي إما كانت منهمكة في الإعداد للمواجهات المتوقعة على جبهة الصحراء الغربية كحال الفرقة السابعة الاسترالية والفرقة الأولى الجنوب افريقية والفرقة الرابعة الهندية، وإما تقوم بمسح وتمشيط لمسرح العمليات في صحراء سيناء كالفرقة الخامسة الهندية وبعض المجموعات المشتركة البريطانية – الأفريقية، ما لم يبقي متوفرا للعمل كقوة مساندة واحتياط سوى الفرقة الاسترالية السابعة المرابطة في مرسى مطروح.

وكان على القادة العسكريين البريطانيين أيضا أن يواجهوا، بما تبقى لديهم من قوات منهكة وإمدادات ضعيفة، الخطر المحدق بالجبهة العراقية بسبب التعاطف الذي أبداه العراقيون مع قوات المحور، ما دفعهم لاتخاذ إجراءات ميدانية عاجلة كان منها استقدام قوات مساندة من الهند والشرق الأوسط والاستعانة بالفيلق العربي لاستعادة السيطرة على الموقف.

ولم تكن حال الجنرال ويفل بأفضل مما أصاب أدميرال البحر الجنرال كننغهام الذي تقلص حجم أسطوله البحري، بنتيجة المواجهات الضارية التي حصلت في حوض المتوسط، إلى بارجتين وثلاثة طرادات وسبعة عشر مدمرة فقط صالحة للقتال كان يقع عليها عبء الحفاظ على خطوط الإمداد لكل من طبرق ومالطا، وبذل ما في وسعها لعرقلة إمدادات وتعزيزات السفن المعادية المتجهة إلى شمال أفريقيا، كل ذلك كان يتم تحت وابل من الضربات الجوية المتلاحقة لسلاح الجو الألماني، ما دفع بقائد الأسطول البحري في نهاية شهر أيار لطلب زيادة الطلعات الجوية المرافقة ما سمح بإغراق عدد لا بأس به من سفن المحور، واتاح للبحرية تحقيق بعض التقدم على تلك الجبهة.

أما على صعيد سلاح الجو، وبعد الموجات الأولى من المواجهات التي حصلت في مطلع العام، فقد انخفض عدد الطائرات البريطانية الصالحة للاشتباك إلى مائتان وخمسون طائرة فقط، كان عليها أن تغطي بمفردها مسرح عمليات واسع يمتد من مالطا، إلى شرق البحر المتوسط، امتدادا إلى جزيرة كريت وشمال وشرق أفريقيا وعدن والبحر الأحمر وفلسطين دون استبعاد احتمال قيامها بعمليات فوق سوريا والعراق، وكان على هذه الطائرات، في حال اضطرارها لإجراء عمليات تبديل أو تزود بالوقود، المغامرة بالتحليق طويلا فوق حوض المتوسط للهبوط ليلا في مالطا، أو عبر البحار إلى غرب أفريقيا ومنها قاطعة مسافات لا تقل عن ثلاثة آلاف وسبعمائة ميلا وصولا إلى القاهرة.

في المواجهة كان لدى الألمان ما يزيد عن ألف ومائتي طائرة حديثة كاملة التجهيز، يضاف إليها ستمائة طائرة إيطالية تتمتع جميعها بميزة سرعة إعادة التسلح والتجهيز في مطاراتها المنتشرة في مختلف أنحاء مسرح العمليات الحربية.

وفي أيار، وقبل اندفاع الهجوم الألماني نحو كريت، تكونت قناعة تامة لدى القيادة العليا الميدانية بضرورة إعادة القيام بعملية تنظيم وتجهيز سريعة وشاملة لقواتهم الحربية، خصوصا بعد الأخبار التي توالت عن خطر جديد محدق اخذ يلوح على جبهة طرابلس، وهو ما دفع بالجنرال ويفل للتوجه بطلب، عبر رئاسة الأركان، لعقد اجتماع مع القيادات السياسية العليا المخولة مناقشة التطورات الجارية في المتوسط واتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة بشأنها، وهو ما تم فعلا من خلال الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية إيدن وما اتخذ خلالها من قرارات كان أبرزها تجريد حملة عسكرية على القوات الفرنسية الفيشية المرابطة في لبنان وسوريا احد أهدافها تخفيف الضغط عن قواتهم المنهكة والمنخرطة بعمليات قتالية على باقي الجبهات.

لكن ما عاد وأزعج ويفل هو قيام الجنرال ديغول بالاتصال مباشرة برئيس الوزراء البريطاني تشرشل عارضا عليه قيام قوات فرنسا الحرة بهذه المهمة، وهو ما وجده ويفل سخيفا لعلمه أن حجم القوات الديغولية المرابطة في فلسطين لم يكن يتجاوز الخمس كتائب عسكرية وفصيلة مدفعية واحدة، بينما كانت معلوماته تشير أن لدى الجنرال دانتيز، القائد العسكري للقوات الموالية للحكومة الفيشية، ما لا يقل عن ثمانية وعشرون ألف جندي كامل التسليح والتدريب، إلا أن طلب ديغول لقي تعاطفا من قبل تشرشل وكاترو والسير وليام لمبسون والجنرال سبيرز ضابط الارتباط البريطاني مع قيادة القوات الفرنسية الحرة.

في المقابل تمكن الألمان، الذين كانوا يعدون العدة للاستيلاء على الجبهة السورية، من تنظيم تسلل منتظم لقواتهم إليها بتواطؤ من الجنرال دانتيز.

وبحلول نهاية شهر نيسان، اعلم الجنرال ديل زميله ويفل انه بالنظر لاحتمال حصول غزو ألماني جوي وشيك على سوريا، فقد أرسلت وزارة الخارجية البريطانية تحذيرا للجنرال دانتيز طالبة فيه توضيحات عن مدى استعداده لمواجهة هذا الغزو وما طبيعة الإجراءات الدفاعية التي سيتخذها، وفي الوقت نفسه استفهم ديل من ويفل عن حجم القوات الممكن توفيرها لمساندة دانتيز في تلك الحالة ناصحا إياه بعدم إشراك القوات الديغولية في المعارك ما لم تتقدم منه بطلب صريح بذلك.

و قد جاء جواب دانتيز انه سيقاوم الزحف الألماني في حال حصوله، إلا انه سيخضع في نهاية الأمر لأية أوامر قد تصدر إليه من حكومة فيشي، كما أحاط الجنرال ويفل ديل بتاريخ 28 نيسان ( في الوقت الذي كانت تجري فيه عمليات الإجلاء من اليونان على قدم وساق ) بان القوة الوحيدة المتوفرة لديه حاليا هي لواء الخيالة، وبناء عليه صدرت إليه التعليمات لإبقاء قواته في حالة جهوزية قتالية تسمح له بالتدخل وتقديم الدعم للجنرال دانتيز في حال حصول أي هجوم عليه، وفي حال فشل في مقاومته أو انهارت دفاعاته، فان على كافة التشكيلات القتالية البريطانية المتوفرة القيام في الحال، وبدون أي تردد، بهجوم معاكس لمواجهة الغزو، مع ضرورة إخطار القوات الديغولية بالبقاء في حالة استعداد تامة للاستعانة بهم كاحتياط في حال دعت الحاجة.

في الخامس من شهر أيار، وبناء لطلب من الجنرال كاترو مساعد الجنرال ديغول في المشرق، عقد اجتماع في القاهرة لمناقشة المستجدات في سوريا، حيث عبر كاترو عن عدم اقتناعه بان الجنرال دانتيز سيقاوم الغزو الألماني المتوقع، وبالتالي فهو على أتم الاستعداد، في حال سقوط سوريا بيد الألمان، لمهاجمتها بواسطة كتائبه الستة المتواجدة في فلسطين والتي أصبحت في طور الجهوزية للقتال، وقد وافقته هيئة الأركان على مخاوفه خصوصا بعد أن تسربت إليها معلومات عن أوامر أعطيت لدانتيز لتسهيل تحليق الطائرات الألمانية والإيطالية في أجواءه.

و في التاسع من شهر أيار تلقى الجنرال ويفل تعليمات من رئيس الوزراء تشرشل يأمره فيها بتزويد قوات فرنسا الحرة بكل ما تحتاجه من معدات ووسائل نقل وكل ما يراه مناسبا لمنع الإنزال الألماني في سوريا.

و في الثاني عشر من نفس الشهر، تناقلت الأنباء معلومات أن الطائرات الحربية الألمانية قد هبطت في المطارات السورية، لذا أعطيت على الفور الأوامر لجنرال الجو " تيدر "، القائد الجديد لسلاح الجو البريطاني في الشرق الأوسط، لمهاجمة تلك الطائرات، وبناء عليه قام سلاح الجو البريطاني بتنفيذ ضرباته على دفعات، فقصف بتاريخ 14 و15 أيار مطار دمشق، تلى ذلك قصف مطاري رياق وطرطوس بتاريخ 18 و19 منه، ما أدى إلى حدوث أزمة حادة في العلاقات بين بريطانيا وحكومة فرنسا الفيشية دفعت بالجنرال ويفل لطلب عقد اجتماع طارئ في القاهرة لتقييم الموقف الناشئ واتخاذ القرارات المناسبة بشأنه.

في خلفية الصراع على سوريا ولبنان

حظيت فرنسا منذ مطلع القرن السادس عشر بامتيازات تجارية وثقافية في الإمبراطورية العثمانية، وكانت قوة هذه الامتيازات تتضاعف كلما ازداد " مرض " الدولة العثمانية وتفككت أوصالها، ومع الوقت أصبحت الفرنسية اللغة الثانية في بلاد الشرق الأدنى، إلى جانب اللغة العربية، كما أخذت هذه البلاد تتطبع شيئا فشيئا بالعادات والتقاليد الأوروبية التي انتقلت من فرنسا، وبرز في كل من مصر والشرق الأدنى طبقة جديدة مثقفة تنظر إلى باريس على أنها مركز الحضارة الأوروبية والتقدم الاقتصادي. وعلى الرغم من نمو التأثير البريطاني منذ بديات القرن التاسع عشر، تمكنت فرنسا والفرنسيين من المحافظة على امتيازاتهم المالية والصناعية في المشرق، لا بل تزايدت هذه الامتيازات وتكاثرت إلى جانبها مدارسهم وبعثاتهم.

و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 ) والمفاوضات التي تلتها، تمكنت بريطانيا بدبلوماسيتها وقواها المسلحة ودعمها للمشاعر الوطنية العربية من تحقيق حضور قوي وفاعل في الشرق الأوسط على حساب الفرنسيين الذي تراجع نفوذهم شيئا فشيء، ثم جاءت التسوية المبرمة مع الدولة التركية الجديدة في لوزان بنتائج مهينة على كل الصعد لفرنسا، ومنذ 1924، افترقت سياسات كل من فرنسا وبريطانيا بشكل جذري فيما خص قضايا الشرق الأوسط، فقد نحت السياسة البريطانية نحو إعطاء الاستقلال للبلاد العربية التي وقعت تحت سيطرتها، بينما أصرت فرنسا على انه من الضروري إبقاء تلك البلاد تحت انتدابها إلى حين بروز طبقة جديدة مثقفة مؤهلة لحكم البلاد وإدارة شؤونها، وهو ما سيستغرق بنظرها وقتا طويلا جدا ( كان الصراع على النفوذ وما نتج عنه من افتراق في السياسات والمصالح من الأسباب الكامنة القوية التي أدت لاحقا إلى وقوف حكومة بيتان إلى جانب الألمان في الحرب العالمية الثانية ).

يبلغ تعداد سكان سوريا ولبنان، اللتين أخضعتا بقرار من عصبة الأمم للانتداب الفرنسي، حوالي ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف نسمة ذوو أصول ثقافية ودينية مختلفة، منها ما هو مسلم ومنها ما هو مسيحي أو يهودي، وقد قسم الانتداب الفرنسي البلاد إلى أربعة مناطق حكم هي سوريا حيث الأغلبية الإسلامية السنية، ولبنان حيث الغالبية المسيحية، واللاذقية حيث الغالبية العلوية، وجبل الدروز.

ومنذ عهد بداية الانتداب، حصلت اضطرابات شديدة في كل من سوريا وجبل الدروز بين سلطة الانتداب وبعض الوطنيين سببها الرئيسي عائد لاستبداد وجور وفساد الحكام العسكريين الفرنسيين، وقد تطورت تلك الاضطرابات إلى اندلاع حرب أهلية استمرت منذ عام 1924 حتى عام 1927 شارك فيها كلا الجانبين الفرنسيين والثوار، بعدها استمر سوء التفاهم بين السياسيين اللبنانيين والسوريين من جهة وسلطة الانتداب من جهة أخرى حتى تموز 1939، حين اتخذ الحاكم العسكري الفرنسي قرارا بحل البرلمانين السوري واللبناني وقمع بعض اعضاءهما أو اعتقالهم.

و بعد اندلاع المعارك في أوروبا، تولى الجنرال ويغان المعين برتبة القائد الأعلى للقوات المسلحة الفرنسية في المشرق، وضع الخطوط الاستراتيجية العامة للسياسة الفرنسية في لبنان وسوريا، وقد أبدت القيادات اللبنانية والسورية رغبتهم بدعم فرنسا وحلفائها في الحرب، إلا أن رد فعل المواطنين كان فاترا جدا ولا مباليا.

و في عام 1940، وبعد سقوط باريس وإعلان الجنرال ميتل هاوزر عن تطبيق الأحكام العرفية على البلاد السورية ورد الحكومة البريطانية بأنها لن تسمح أبدا بوقوع سوريا تحت سيطرة قوات معادية، أبدت قلة من المدنيين والعسكريين الذين يؤدون خدمتهم في سوريا رغبتها بمتابعة قتالها ضد القوات الألمانية، ثم انتقل قسم منهم إلى فلسطين، وشيئا فشيئا تكون لديهم الاقتناع بأنهم سوف يحصلون على التعاطف والدعم الملائمين من القوات البريطانية لنصرة قضيتهم.

بعد سقوط باريس عام 1940، تحول استياء غالبية السياسيين السوريين من الوصاية الفرنسية إلى شعور بالمهانة والإذلال لخضوع بلادهم لأمة مهزومة، وبعد انسحاب فرنسا من عصبة الأمم، وجد هؤلاء أن شرعية فرض الوصاية والانتداب عليهم قد انتهت، ثم في مطلع عام 1941، قاد بعض الوطنيين الاضطرابات والمظاهرات التي عمت المدن السورية بسبب نقص الغذاء والتموين، ولاستيعاب النقمة الشعبية أعلن دانتيز عن تشكيل مجلس استشاري مهمته إجراء بعض إصلاحات اقتصادية، بعدها قام بتعيين عدد من الوزراء في كل من سوريا ولبنان.

في هذا الوقت كان المناخ العام لحكومة فيشي كان معاديا للبريطانيين وهذا لم يكن نتيجة للاحتلال الألماني، بل لاعتقاد الطبقة السياسية والعسكرية العليا الحاكمة في فرنسا بضرورة تأسيسهم دولة دكتاتورية على غرار النموذج الألماني دون أن يعني ذلك رغبتهم بالبقاء خاضعين للنفوذ الألماني إلى الأبد، وفي أواخر صيف 1940، وحين بدا أن الهزيمة البريطانية لا تلوح في الأفق، أبدى الماريشال بيتان وعدد من وزراءه رغبتهم في مقاومة التعديات الألمانية، لذا أرسل في تشرين أول، الجنرال ويغان إلى شمال أفريقيا لتنظيم مقاومة استيلاء أي من ألمانيا أو بريطانيا على تلك المستعمرات، ثم سمح بفتح خطوط مفاوضات جانبية مع بريطانيا، بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تسعى لإقناعه بمواصلة القتال ضد الألمان، وبينما كانت تلك المفاوضات تجري، التقى في 24 تشرين أول هتلر في مونتوار حيث بحث معه إبرام اتفاقية نصت على أن لفرنسا وقوات المحور هدف واحد مشترك هو هزيمة بريطانيا في أسرع وقت ممكن، وعليه فان فرنسا تتعهد لقوات المحور بتقديم كامل الدعم المطلوب لإتمام تحقيق ذلك الهدف، لكنه لاحقا في شتاء 1940-1941، وبعد وقوع لافال أكثر الوزراء الألمان نفوذا بالأسر، تراء له أن النصر على بريطانيا بعيد المنال، لذا خفت حماسته وأفسح المجال للمضي بالجهود الأمريكية الساعية لفك التحالف بينه بين الألمان، وفي أيار بلغت مسايرة الولايات المتحدة للفيشيين حدها الأقصى حين تمكنت من إقناع القيادة البريطانية، المرتبطة أصلا بدعم الجنرال ديغول والغير مقتنعة أصلا بصدق نوايا الفيشيين، بفك الحصار والسماح بمرور محدود للسفن الأمريكية المحملة بالمؤن إلى مدينة مارسي.

كانت الإجراءات الحازمة تجاه حكومة فيشي مرغوبة جدا من قبل عدد من القادة البريطانيين الفاعلين في سياسة الشرق الأوسط الذين استقوا معلوماتهم بالدرجة الأولى من العسكريين الذين خدموا هناك ومن الديغوليين، وقد كان يحكم رأي هؤلاء التنافس الحاد الذي نشأ بين سياسات بريطانيا وفرنسا في المنطقة، وقد ادعى العسكريين الإنكليز أن انتزاع سوريا من أيد الفرنسيين لن يكون فقط ضروريا بل سيكون أيضا سهل، كون معظم ضباطهم مرتشين وفاسدين وقساة، وأن المواطنين المحليين لن يأسفوا أبدا لرؤيتهم يرحلون، كما ادعى الديغوليين انه ما أن يعلن عن قيام الحملة على سوريا حتى يبادر أولئك الضباط للاستسلام، لكن في الحقيقة فان كلا الادعاءين كان مبالغ فيهما.

من ناحية أخرى، كانت تقديرات الاستخبارات الإنكليزية العاملة تحت قيادة الجنرال ويفل بان تعداد القوات العسكرية العاملة بامرة القيادة الفرنسية في المشرق تبلغ ثمانية وعشرون ألف جندي نظامي كامل التدريب والتجهيز معظمهم من العرب والأفارقة، إضافة إلى خمسة وعشرون ألف عسكري لبناني وسوري وغيرهم من عناصر الدرك، أما عدد القوات والعملاء الألمان في سوريا فيقدر بحوالي 300 عنصر.

كانت حجم القوات الفرنسية في سوريا يشكل تحديا كبيرا بالنسبة للجنرال ويفل، لكن ما كان يغيظه هو القناعة الموجودة لدى بعض السياسيين بسهولة الموقف الذي يواجهه بحيث يكفيه " رمي قبعته على سوريا ليحتلها ". وفي التاسع من أيار ابلغ رئيس الوزراء تشرشل الجنرال ويفل بأنه لا بد له من السماح لكاترو بالتقدم نحو سوريا، وكان حجم كاترو يعادل، بالعرف العسكري، ستة كتائب عسكرية بينها أربعة من المرتزقة السنغال وبطاريتي مدفعية عيار 75 مم. ثم تلقى ويفل في العاشر من أيار برقية من ديغول يعبر فيها عن انزعاجه لعدم المباشرة في تجميع قواته وتحضيرها للتدخل في سوريا، وفي الثامن عشر منه، ابلغ كاترو، الملح بالسير إلى سوريا، الجنرال ويفل أن القوات الفيشية قد انسحبت من سوريا إلى لبنان مخلية مواقعها للألمان وأن الطريق إلى دمشق أصبح مفتوحة أمامه وهو يستأذنه التحرك نحوها ودخولها.

شكك ويفل بمعلومات كاترو وفضل التروي، وخلال بضع ساعات تبين له صحة توقعاته حين أذاع دانتيز أن الحكومة البريطانية اتهمت الحكومة الفرنسية بأنها " لم تمنع تحليق الطائرات الألمانية فوق سوريا، وأن بعض تلك الطائرات قد هبط فعلا في مطاراتها "، وعليه أعلن دانتيز انه " جاهز للرد على أي اعتداء ومواجهة القوة بالقوة ".

وعليه قررت قيادة الأركان في لندن السماح لكاترو بالتحرك والتمركز على الحدود السورية في مواجهة درعا، ثم دخول سوريا إذا تبين أن ردود الفعل العربية والفيشية كانت مرحبة، وفي 20 أيار ( وهو اليوم الذي انطلق فيه الهجوم الألماني على جزيرة كريت ) خضع الجنرال ويفل للمحتوم، حيث أعطى أوامره للجنرال ميتلند ويلسن، قائد القوات البريطانية في الأردن وفلسطين، لإعداد خطط لتقدم القوات البريطانية – الديغولية المشتركة إلى دمشق ورياق وبيروت، كما أشار للفرقة السابعة الاسترالية العاملة بقيادة الجنرال لافاراك بالتحرك نحو فلسطين.

وقد صارح الجنرال ويفل قيادته في لندن باعتقاده أن مصير هجوم قوات فرنسا الحرة إلى سوريا هو الفشل، وانه إذا بقيت السياسة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط محكومة برغبات كل من ديغول وكاترو، فانه يفضل الاستقالة وإعفاءه من منصبه.

لكن القرارات السياسية التي اتخذت تجاهلت اقتراحات ويفل وتقديراته الحكيمة، ولاحقا في ذلك الشهر تعرضت القوات البريطانية القليلة التجهيز في كريت لهجوم ساحق، ووقعت طبرق تحت الحصار، وتبين أن الدفاعات البريطانية في الصحراء الغربية ضعيفة جدا، كما تصاعدت نشاطات الثوار في العراق.ثم تلقى ويفل، وعكس رغباته، موافقة مبدئية من تشرشل وقيادته في لندن على المباشرة بغزو سوريا بواسطة قوات فرنسا الحرة التي يعوزها المدفعية ووسائل النقل الكافية ويبلغ إجمالي حجمها تسع حجم القوات المدافعة عن سوريا، وقد ابلغ تشرشل ويفل برقيا بان ما قرره يعبر عن رؤية وسياسة حكومته وهو يتحمل كامل المسؤولية عن ذلك، وهو لا يمانع إعفاء ويفل من مسؤولياته إذا رغب بذلك.

في هذه الأثناء تلقى كاترو من القيادة العليا موافقة على طلبه تجميع قواته والمباشرة بما اسماه المسيرة السهلة للسيطرة على دمشق، لكن ما نقله له الكولونيل كوليت قائد القوات الفيشية في حوران جعله يعيد التفكير بقراره، حيث اعلمه أن ما يحكى عن انسحاب للقوات الفرنسية نحو لبنان غير صحيح، وأن ما يجري هو إعادة تموضع للقوات شمال دمشق للدفاع عنها، وانه من غير الممكن إلا لقوة هجومية كبيرة من اختراق تلك الخطوط الدفاعية، وكان هذا الضابط قد انشق في الواحد والعشرون من شهر أيار عن الجنرال دانتيز وعبر إلى فلسطين مع سبعة من اصل سراياه العشرة.

في 22 شهر أيار، أعاد الجنرال ويفل شرح قناعاته للجنرال ديل مبديا عدم رضاه عن تحريك قواته نحو سوريا قبل إنجازه الاستعدادات المناسبة لذلك، وقد عبر بصراحة عن رأيه بما يجري من مناحرات ومزايدات يقوم بها بعض السياسيون، وانه قرر بعد استشارته لكل من الجنرالين كاننغهام وتدر المباشرة بتحريك قواته نحو فلسطين.

وبعد ثلاثة أيام من زيارته للبصرة للقاء القائد العام للقوات البريطانية في الهند الجنرال اوتشينلك، اعلم الجنرال ويفل مجلس الحرب انه يعد العدة لهجوم مشترك بريطاني – فرنسي على سوريا مستعينا بالفرقة السابعة الاسترالية وقوات المغاوير الفرنسية ووحدة من فرقة الفرسان الأولى، إلا أن قواته تفتقد عمليا لسلاح المدرعات، وحدد ويفل أهداف حملته بالسيطرة على خط دمشق - رياق - بيروت، لكنه أبدى خشيته من قلة حجم قواته وحاجتها للتدعيم بفرقتي مشاة وفرقة مدرعات، أو على الأقل لواء مدرعات لإتمامها بالشكل المطلوب.

في 27 شهر أيار درست لجنة الدفاع مطالب ويفل، ثم أبلغته في اليوم التالي أن هزيمتهم في كريت أصبحت أمرا واقعا، وأن أولويتهم الحالية هي تحسين موقفهم على جبهة الصحراء الغربية، وأنهم سيطلبون من الأتراك تولي أمر حلب، لكن بالنسبة لسوريا، فان على ويفل احتلالها قبل تعافي سلاح الجو الألماني من الضربة التي لحقت به وترك له تحديد تاريخ الغزو على أن يكون في اقرب وقت ممكن، وقد أجاب ويفل أن 7 حزيران هو التاريخ المبدئي المناسب لمباشرة العمليات.

في 29 أيار زار ديغول القدس بصحبة المايجور جنرال سبيرز، وقد كتب ويلسون لاحقا عن مضمون الاجتماعات التي حصلت بينه وبين كل من ديغول وسبيرز :

" قدم سبيرز لرؤيتي أولا..... وأصر إلي كم يبدي رئيس الوزراء من احترام للجنرال ديغول، وكم انه من الضروري تلبية طلباته في أسرع وقت ممكن، ثم شرح لي مهمته التي تقضي بضمان التفوق العسكري والسيطرة البريطانية على الموقف، كما نصحني أن نعامل الضباط الفرنسيين في سوريا بحيث نضمن التفريق بين كبار الضباط وصغارهم، وأن نعزل هؤلاء عن باقي الجند الذين من المستحسن أن نطعمهم جيدا ونقدم لهم النبيذ والقهوة، لكن خلال المعارك يجب أن نأمرهم بالابتعاد جانبا ونترك أمر مواجهة الألمان للجنود البريطانيين، وفي نفس الليلة أتاني الجنرال ديغول لرؤيتي في مكتبي وقدم لي شروحاته النفسية عن العملية، فعدد كبير من الجنود الفرنسيين لا يحبذون قتال البريطانيين أو قوات فرنسا الحرة، أما الجنود السوريين فان المسألة لديهم هي مسألة شرف، فإذا تلقوا الأمر بالدفاع عن احد المواقع فإنهم سيفعلون، لذا يجب تدبر ذريعة لعدم قتالهم، أو الدخول معهم إذا اقتضى الأمر في مناوشات محدودة، وأن سقوط بيروت سيكون له اكبر الأثر لوقف المقاومة لأنه من المألوف أن يتلقى الجميع أوامرهم من هناك، وأن القصف الجوي يفضل أن يكون على مواقع المدفعية حيث سيكون له اكبر الأثر لوقف أي مقاومة، لكن كل هذه الآراء لم يكن لها أدنى اثر لدى الجنرال ويفل وتحضيراته الواسعة الجاري إعدادها للمعركة ".

إلى أي مدى أحيطت الحكومة الاسترالية علما بما يجري التحضير له، بالنظر إلى حجم القوات الاسترالية المطلوب مشاركتها في العملية ؟.

في 18 أيار ابرق الجنرال بليمي إلى الحكومة الاسترالية شارحا مدى الحاجة لإرسال الفرقة الاسترالية السابعة إلى فلسطين للمساعدة على مواجهة التطورات المستجدة في سوريا ( جرت الإشارة سابقا إلى أن الجنرال ويفل كان قد اخطر لافاراك بتاريخ 20 أيار بالتهيؤ للتحرك إلى فلسطين، وفي 25 أيار اعلم مجلس الحرب انه في طور الإعداد لخطة الغزو مستعينا بالفرقة السابعة وبعض القطاعات العسكرية الأخرى ).

في 25 أيار، ابرق السيد بروس، المفوض الأعلى للحكومة الاسترالية في لندن، إلى السيد مانزيس مشددا على ضرورة إعاقة أية جهود ألمانية للسيطرة على سوريا، طالبا منه إرسال برقية إلى تشرشل مؤيدا وجهة نظره هذه، وقبل درس تلك الاقتراحات من قبل لجنة الدفاع الوزارية، أرسل بروس في 25 أيار رسالة ثانية يحث فيها لجنة الدفاع على تفهم ضرورة اتخاذ إجراءات فورية لدخول سوريا، علما أن اللجنة كانت قد توصلت فعلا لقناعة بإعطاء ويفل تلك الأوامر، وفي 29 أيار قررت اللجنة الطلب من الجنرال بليمي إعطاءها تقييما للأوضاع في الشرق الأوسط بما في ذلك " احتمالات عدم دقة ادعاءات استخدام سوريا من قبل الألمان "، وفي نفس اليوم أرسل مانزيس رسالة إلى تشرشل يطلعه فيها أن محاولة الاستيلاء على سوريا قد تلقى بعض المعارضة لتأثيراتها المحتملة على الرأي العام في الولايات المتحدة، وأبدى مانزيس اقتناعه أن كايسي والسلطات الأمريكية سيفلحان في إقناع الرأي العام بصوابية القرار البريطاني، وبأن ما من شيء أفضل من منع الألمان من تثبيت إقدامهم في سوريا لما قد يشكله ذلك من حافز لهم للتقدم إلى مواقع أخرى. و منذ 20 أيار وعلى مدى تسعة أيام جرى الإعداد لخطط العمليات حيث تقرر إشراك القوات الاسترالية فيها بشكل أساسي وفاعل، وفي 30 أيار، وصلت تقييمات بليمي للموقف إلى الحكومة الاسترالية، حيث أوضح لهم فيها الخطوط العريضة لخطة الغزو، طالبا وضع القواعد الجوية السورية تحت الرقابة الصارمة في أسرع وقت ممكن، شارحا أن القوات التي ستشارك في العمليات سوف تتألف من لوائي خيالة، الفرقة السابعة الاسترالية، لواء هندي وفرقة من قوات فرنسا الحرة ( في حقيقة الأمر أن لوائي الخيالة لم يكونا في حال جهوزية تامة، والقوات الفرنسية لم تكن فرقة وفق المفهوم الاسترالي ).

في 31 أيار ابلغ تشرشل مانزيس بضرورة الاستيلاء على سوريا في أسرع وقت ممكن، في 4 حزيران، الحكومة الاسترالية التي لم تكن قد أحيطت بعد علما بالتاريخ النهائي للغزو، أبدت قلقها لتشرشل من التأخير الحاصل، وفي وقت متأخر من السابع من حزيران، اعلم كل من تشرشل وبليمي مانزيس بان الهجوم سينطلق في صباح اليوم التالي، كما أحاط تشرشل الرئيس روزفلت بذلك القرار.

و حتى ذلك التاريخ ولأيام تلت، لم تكن الحكومة الاسترالية قد أحيطت علما أو استشيرت بشكل رسمي فيما خص الغزو، وفي 29 أيار، كان مانزيس قد اعد العدة كاملة لإقناع حكومته بدعم مشاركة قواتهم في احتلال سوريا ولإقناع بعض الوزراء الذين سيبدون تخوفا على مصير جنود بلادهم بما في ذلك أولئك المرابطين في قبرص. لكن السؤال بقي هل كان من مبرر فعلي للتخوف من قيام الألمان بالاستيلاء على مقاليد الأمور في سوريا، أو هل كان لهم تواجد عسكري متقدم فيها ؟.

كان من شروط الهدنة المنعقدة بين حكومة فيشي من جهة، وألمانيا وايطاليا من جهة أخرى، أن تتولى ايطاليا توسيع سيطرتها والتأكد من التخفيض الجزئي لأسلحة المستعمرات الفرنسية، وفي عام 1940 قدم إلى سوريا موفد إيطالي كان الغاية من زيارته تطبيق شروط الهدنة فيها، وبحلول شهر تشرين ثاني كان قد حقق خفضا في عدد القوات النظامية المرابطة فيها وصل إلى 28000 جندي.

و بعد المحادثات التي تمت بين الماريشال بيتان وهتلر تم التوصل إلى تفاهم يقضي بان أفضل ما يمكن فعله لمنع البريطانيين وقوات فرنسا الحرة من السيطرة على المستعمرات الفرنسية هو قيام القوات الفيشية بالدفاع الذاتي عنها، وعليه اتخذت كلا القيادتين الألمانية والإيطالية قرارا بتدعيم القوات المرابطة في سوريا بعشرة آلاف جندي مغربي، لكن المعضلة بقيت كيف يمكن نقل هؤلاء الجنود إلى سوريا.

في 3 أيار، ذهب وزير الخارجية الفرنسي دارلان إلى باريس بناء لدعوة من ابيتز الحاكم العسكري المنتدب من قبل ألمانية الهتلرية، حيث أعطى موافقته على إنشاء مخيمات تدريب وتزويد المتمردين العراقيين بالسلاح من مخازن القوات الفيشية في سوريا، كذلك سمح بتزويد الطائرات الألمانية والإيطالية بالوقود من مطاراتها.

بعدها بخمسة أيام، أعطى دارلان تعليماته لدانتيز لتقديم كافة التسهيلات للقوات الألمانية والإيطالية ولمقاومة أي رد فعل بريطاني قد يصدر، في 9 أيار وصل إلى سوريا السيد رودولف ران موفدا من قبل وزارة الخارجية الألمانية وكانت مهمته تنظيم موضوع الإمدادات العسكرية إلى المتمردين في العراق.

و قد أبدى الألمان سعادتهم بالاتفاق الذي تم التوصل إليه إلى درجة دعوة دارلان للقاء هتلر شخصيا في بيرشتسغادن حيث اخبره هتلر انه في حال التزمت حكومة فيشي بالاتفاق المبرم معها ودافعت عن مستعمراتها، فانه سيكافئها بالاحتفاظ بها بعد انتهاء الحرب، أما إذا اضطر الألمان إلى القيام بهذه المهمة فانه سينتزع منهم، وقد تم توقيع اتفاقية بمضمون ما اتفق عليه في باريس حددت فيها تفاصيل المساعدة المطلوب تقديمها للألمان في سوريا وشمال أفريقيا، ومنها الموافقة على بيع المتمردين العراقيين ثلاثة أرباع المحركات المحفوظة في المستودعات بموجب اتفاقية الهدنة، والسماح بتزويد الطائرات الألمانية والإيطالية بالوقود، والسماح للطائرات الألمانية باستخدام مطار حلب والمرافئ البحرية السورية وخطوط السكة الحديد، إضافة لتزويدهم بكافة المعلومات الاستخباراتية عن أوضاع القوات البريطانية في الشرق الأدنى، في المقابل وافق الألمان على السماح باستقدام أربعة وثمانون قطعة حربية من فرنسا إلى سوريا، منها أسلحة مضادة للطائرات ومضادة للدروع وثلاث بطاريات مدفعية مضادة لقاذفات القنابل، إضافة لثلاث كتائب مصفحة من شمال أفريقيا، كما تضمن الاتفاق بيع الفيشيين للألمان مجموعة من سياراتهم العسكرية ومدافعهم من اصل معداتهم المتوفرة في شمال إفريقيا، وسماح فرنسا للألمان باستخدام مينائي بزرتا وداكار كقاعدة لهم.

و عندما تم لفت انتباه الماريشال بيتان بواسطة بعض زملائه الضباط بان الامتيازات التي أعطيت للألمان فيما خص مينائي برتزا وداكار قد تثير أزمة مع الولايات المتحدة، أو نشؤ حرب مع بريطانيا، بادر بيتان للاجتماع بويغان، المعروف بمعارضته الشديدة لما أقدم عليه دارلان، ودرس معه الموقف، ثم اتخذ في 6 حزيران قرارا بإعادة درس وتقييم مردود العلاقات الألمانية – الفرنسية ( كانت قيادة فيشي تجهل تماما عدم قدرة القوات الألمانية في شمال أفريقيا على تنظيم أي حملة بسبب انهماك هتلر في الإعداد لحملته الضخمة على روسيا والتي حدد موعد انطلاقها في 22 حزيران ). في 25 أيار ابلغ هتلر قيادته انه لن يكون بالامكان بعد ألان القيام بأي جهد هجومي حقيقي على قناة السويس أو على القوات البريطانية ما بين المتوسط والخليج الفارسي إلا بعد الانتهاء من عملياتهم الحربية على الجبهة الروسية.

و لاحقا خلال شهر أيار، طلب دانتيز من دارلان سحب القوات الألمانية من سوريا، وصرح انه بحلول 6 حزيران كانت كافة الطائرات الألمانية والميكانيكيين قد غادروا سوريا، وأن الجنرال جنيكن قائد القوات الجوية الفرنسية في سوريا، كان اعلم القنصل الأمريكي بهذا التطور.

و لكن السبب الحقيقي للانسحاب كان اقتناع هتلر بضرورة تحاشي تقديم الذرائع لبريطانيا لغزو سوريا خلال انشغاله بجبهة روسيا، وفي نفس الوقت اقتناعه بان التأسيس لحملة ناجحة إلى سوريا سيقتضي منه تحضيرات طويلة الأمد قد لا تنتهي قبل منتصف شهر تشرين ثاني، وعليه أصدر أوامره بتنفيذ انسحاب سريع لكافة قواته منها باستثناء الاستخبارات السرية. كما وجه أوامره لدانتيز، عبر حكومة فيشي، لصد أية محاولة اختراق قد تقوم بها قوات الحلفاء لتلك الجبهة.

لكن المفارقة انه في حين كان الألمان ينفذون انسحابا تاما من سوريا، كان الجانب الآخر، أي بريطانيا، يعد العدة ويحشد قواته لغزوها بحجة منع عملية اختراق وشيكة ستقوم بها قوات المحور لتلك الجبهة.

الجنرال دانتيز

في تشرين ثاني 1940، عين الجنرال دانتيز بمنصب المفوض السامي لسلطة الانتداب في لبنان وسوريا، وكان هذا الضابط قد بدأ سيرته المهنية في أوائل العشرينات تحت أمرة الجنرال ويغان، ثم انتقل لأمرة الجنرال ساريل في الوقت الذي كان يمارس فيه هذا الأخير سياساته القمعية ضد الوطنيين السوريين عام 1925، بعدها رقي لرتبة نائب القائد العام خلال الفترة الممتدة بين 1934 و1939، وفي تموز 1949 تولى منصب الحاكم العسكري لمدينة باريس أثناء وقوعها تحت الحصار.

و قد صرح دانتيز، خلال محاكمته عام 1945 في بيروت، انه كان قد اسّر للقنصل البريطاني العام بأنه لم يكن يتوقع هبوط أي طائرات ألمانية في المطارات السورية، ولكن ما حصل لاحقا انه تلقى في 6 أيار تعليمات من دارلان تأمره بالسماح للطائرات الألمانية بالهبوط في سوريا والتزود بالوقود، وانه في 9 و11 أيار، هبط في سوريا أربعة طائرات متخفية على صورة طائرات عراقية، ثم بعد أيام قدم حوالي ثلاثة وثلاثون ميكانيكي طائرات إلى حلب، ثم عبر الأجواء السورية ذهابا وإيابا حوالي مائة وعشرون رحلة جوية ألمانية في طريقهم للعراق، واعترف دانتيز أيضا خلال محاكمته انه، وبناء لتعليمات صدرت إليه، شحن للعراق 24 مدفع، و800 مدفع رشاش ومن 30.000 إلى 40.000 بندقية، بينها ثمانية مدافع بدون مرقاب، و354 بندقية قديمة الطراز.

كان دانتيز وأتباعه في سوريا تحت وصاية قائد إيطالي يحتقرونه، وكانت حكومته تخضع لسلطة الألمان الذين يكرههم لإذلالهم أمته ولامتهانهم لها، وكان حانقا على البريطانيين، خصوم فرنسا لأجيال في المشرق، لتخليهم عن دعم بلاده خلال اجتياح هتلر لباريس عام 1940، كما كان وأتباعه مهددين من قبل الديغوليين المنقلبين على حكومتهم في باريس، لكنه في النهاية كان يتصرف كجندي يغلب عليه ولائه العسكري، وكانت مقاومته للبريطانيين في سوريا ذات مغزى وطني كونها، باعتقاده، كانت ستثني الألمان عن احتلال باقي الأراضي الفرنسية ومستعمراتها في شمال أفريقيا.



تعليقات: