في هذه الأثناء، وفي شرق جبل حرمون، واصل الجنرال لغنتلوم هجماته على مواقع فيشي في الكسوة، وقد استطاع تحقيق بعض التقدم في هذه الجبهة، لكن لاحقاً وصلته تقارير تفيد بأن دبابات فيشي تتقدم ناحية جناح هجومه الأيمن، عندها أمر قواته بالتوقف والتحصن احتياطاً على جبلي معان وبدران، وافيد لاحقاً أنه قد تعرض للإصابة.
شكك الجنرال ويلسون، الذي كان في إربد في ذلك اليوم يتشاور مع الجنرال ويفيل، بصحة تلك التقارير عن بدء هجوم مضاد، وأعطى بالتالي أوامره الى اللواء الهندي الخامس، العامل تحت قيادة قوات فرنسا الحرة، بالهجوم بعد أن جعل القوة الصغيرة المرابطة على حدود شرق الأردن مسؤولة عن حماية خطوط الامداد الجنوبية وصولاً حتى الشيخ مسكين، بعد ذلك بوقت قصير اكتشف ويلسون أن إنذار الفرنسيين الأحرار غير دقيق، فالدبابات التي شوهدت إلى الشرق كانت تعود للعقيد كوليت العامل تحت امرته، مع ذلك مضى العميد لويد قدما في استعداداته، وفي الثالث عشر من حزيران، استخلص انه غير قادر على دحر قوات العدو المتمركزة في الكسوة ما لم يتوفر له غطاء مدفعي كثيف، لذلك قرر العودة، بواسطة سيارة إسعاف ميدانية، الى درعا لمناقشة هذا الاقتراح مع الزعيم الفرنسي الحر الجريح لغنتلوم، وقد وافقه هذا الأخير على اقتراحه بتأجيل الهجوم الذي كان مقرراً شنه بقيادة لويد الى الخامس عشر من حزيران.
في الثالث عشر من حزيران، وكإجراء تمهيدي، تقدم اللواء الهندي الى الامام تاركاً الكتيبة الإنجليزية رويال فوزيليير في القنيطرة، وحين حاولت سرية من قواته مدعمة بمصفحتين التوجه نحو سعسع، وحين بلغت منتصف الطريق بين القنيطرة ودمشق، تعرضت لنيران شديدة من قوة فرنسية متحصنة هناك، فاضطرت الى التراجع.
كانت قوات العدو متمركزة على ذلك المحور في موقع حصينة وقادرة على شن هجمات مضادة بسهولة، كذلك كانت لديها القدرة والاستعداد للتوجه نحو القنيطرة، أو التحرك شرقا لقطع طريق درعا خلف أي قوة معادية قد تجرأ على الاقتراب من الكسوة.
تجدر الإشارة انه منذ الأسبوع الأول للحملة، نفذت القوات الفرنسية عدد قليل من الهجمات الجوية على القوات المهاجمة، الا ان تلك الهجمات كانت فعالة جداً سواء تمت على القوات البرية أو الاسطول البحري أو المطارات والموانئ وخزانات النفط، علماً أنه في اليوم الأول، قضى السرب رقم 3 R.A.A.F الذي يقوده جيفري، على ست طائرات فرنسية كانت رابضة على أرض مطار بلدة رياق، كما قصف بلنهايم خزانات النفط في بيروت.
وابتداءً من التاسع من حزيران، قام السرب رقم 3 بطلعات متكررة فوق الاسطول البحري، وفي الرابع عشر من الشهر نفسه، أسقطت طائرات جيفري التوماهوك الثمانية، ثلاثة من أصل ثماني طائرات ألمانية من طراز Ju-88 كانت قد حاولت اعتراضها.
تسببت المقاومة الفرنسية العنيدة في كافة القطاعات بقلق كبير في لندن، وقد دفع ذلك الجنرال ديل للاقتراح على الجنرال ويفيل إرسال أرتال آلية من العراق إلى سوريا، وهو ما كان قد قرره ويفيل بالفعل، كما اقترح عليه أن يتم استخدام القاذفات الموجودة في مصر لإضافة وزن للهجوم.
في الثاني عشر من شهر حزيران، صرَّح ويفيل للجنرال ديل أنه على الرغم من التقدم البطيء للقوات، وهو ما كان متوقعاً إذا أصر الفرنسيون على المقاومة، وبالنظر الى صعوبة التضاريس والأعداد غير الكافية للقوات المخصصة للهجوم، فانه ما تم احرازه من تقدم حتى ذلك اليوم كان مرضياً جداً.
وبهدف تعزيز القوات المهاجمة، تم توجيه أمر الى اللواء البريطاني السادس عشر للتحرك من مصر إلى سوريا، كانت وحدات هذا اللواء تعمل حتى ذلك الحين في الصحراء الغربية، وبعض منها كان متواجداً أيضاً في جزيرة كريت، وقد حققت إضافة هذا اللواء الى قوات الحلفاء بعض التوازن مع قوات العدو المستعدة جيدا للدفاع عن أراضيها.
كان خطة الهجوم الموضوعة تنص على ان يتم الاختراق على جبهتين، الأول نحو الكسوة التي تبعد حوالي خمسة وعشرون ميلاً عن دمشق، والثاني عبر اكتساح مرجعيون وجزين، وهو ما تم فعلياً حيث تم حققت القوات تقدم ملحوظ بلغ عشرة اميال أعمق مما هو مخطط، لكن كان لا يزال على هذا المحور تواجد قوي للعدو خصوصاً قرب الليطاني وعلى جبل حرمون وسفوحه.
في القطاع الشرقي من الجبهة، كانت قوات فيشي المدافعة عن دمشق خصوصاً في محاذاة نهر العوجا قد في وضع قوي للغاية، فقد كان لديهم شرق الطريق حشد كبير من قوات المشاة والدبابات المنتشرين في حدائق الكسوة وبين منازلها التي ارتفع خلفها تلين وفرا لها افضلية جيدة وهما تل أبو كليب وتل أبو عتريس الشديدي الانحدار والمليئين بالصخور، وكان المدافعين قاد أقاما عليهما تحصينات متينة، أما لناحية غرب الطريق، فكان كل من تل كسوة وتل عفير وجبل مدني يشكلون حائط صد قوي ضد أي قوات مهاجمة ويوفر للمدافعين سيطرة تامة على طرق درعا والقنيطرة، وكانت معظم الأراضي المنخفضة المحيطة الأخرى تتبعثر فيها اعداد كبيرة من صخور الحمم البركانية التي جعلت من المستحيل على المركبات ذات عجلات مغادرة الطرق، بل انها شكلت أيضاً إعاقة حقيقة لحركة المشاة الذين تقطعت أحذيتهم إلى أشلاء في غضون ساعات قليلة من السير فوقها.
لا بد من الإشارة إلى أنه في الرابع عشر من حزيران تم إحلال العميد لويد مكان الجنرال الجريح لغنتلوم في قيادة القوات البريطانية والفرنسية الحرة معاً، وتولى العقيد جونز قيادة اللواء الهندي.
نصت خطة الهجوم الذي وضعها لويد على أن يتولى اللواء الهندي، في فجر الخامس عشر من حزيران، وبدعم من كتيبة مشاة بحرية فرنسا الحرة، التقدم غرب الطريق نحو الكسوة لاحتلال المقيليبة وتل كسوة وقريتها، على ان يسيطر العقيد كاسو، قائد قوات فرنسا الحرة المتقدمة من ناحية يمين الطريق، على تل أبو عتريس وتل كلب، وهو ما تحقق له فعلياً حوالي الساعة الثامنة مساءً.
كان الاعتقاد ان القوات المهاجمة ستواجه على هذا المحور كتيبتين من قوات العدو، الأولى مغربية، والثانية تونسية، وكلتاهما من الفيلق الأجنبي الملحق بقوات فيشي ومتمركزتين في تل كسوة وتل المقيليبة، وقد وفر ذلك للقوات المدافعة تفوُّق عدد على أعدائهم، إضافة إلى ذلك.
كانت المشاعر تتضارب في قلوب جنود المرتزقة الفرنسيين الاحرار، فقد كان ضمن قوات كاسو كتيبتان سنغاليتان وواحدة من الفيلق الأجنبي، وكان على هؤلاء مواجهة أبناء جلدتهم من الكتائب السنغالية التي تقاتل في صفوف قوات فيشي، ما جعل حماستهم للمعركة تفتر بشكل واضح.
في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، بدأت كتيبة البنجاب 3/1 مدعومة بالسرية 1 من رويال فوزيليير على جناحها الايسر، بالتحرك نحو قرية الكسوة حاملين معهم ثلاثون سلما خشبيا لعبور خندق مضاد للدبابات حفرته قوات العدو بعرض ثلاثة عشر قدماً وعمق مماثل تقريباً.
ومع تقدم تلك الكتيبة تحت جنح الظلام، أطلقت مدفعية الفوج الميداني 1 النار على مواقع العدو خصوصاً على تل كسوة وسفوحه، وقبل الساعة السادسة صباحاً بقليل، تمكن المشاة من عبور أحد الاودية التي تقع شرق القرية، ثم بدوءا القتال وجهاً لوجه مع جنود العدو المنتشرين في حدائق القرية وبين منازلها.
استمر الهجوم حتى الساعة الثامنة والنصف تقريبا حينما بدا ان الجنود المدافعون قد دحروا، ورغم أن هذا الهجوم قد تم بدون أي دعم من الدبابات في مواجهة لديه ضعف عدد القوات المهاجمة، الا انه تكلل بالنجاح.
في الحقيقة لعب الحظ دورا كبيرا في هذا النصر، فقد تمكن المهاجمين من مباغتة المدافعين حينما كانوا يقومون بتفريغ بعض المواد الغذائية وتحميل الأسلحة الى الشاحنات.
وبعد هذا التوفيق، باشر راجبوتانا، قائد البنجابيين، مهاجمة تل كسوة في الحال، حيثفي الحال، وقد تمكن في خلال أقل من ساعة استيلائهمن الاستيلاء عليه، وبحلولكما حصل حوالي الساعة الحادية عشر والنصف، استول ان استولت قوات مشاة بحرية فرنساالبحرية الفرنسية الحرة على الجانب الايسر من تل المقيليبة مجبرين أربع كتائب من قوات فيشي على مغادرتهاالانسحاب، وبالنتيجة تم كسر أحد أجنحة دفاع العدو.
في هذا الوقت، لم يحالف الحظ القوات الفرنسية الحرة المتقدمة على الجناح الأيمن من خط الهجوم، فعلى الرغم من السيطرة على تل كلب، الا ان نيران المدفعية المنهمرة من تل أبو عتريس حالت دون إحراز أي تقدم، كما ان فوج الخيالة التابع للعقيد كوليت المتقدم على أقصى يمين الجبهة قد صُدَّ بعد تعرضه هو يدوره الى وابل كثيف من قذائف المدفعية والدبابات.
في هذه الأثناء تلقى لويد أخبارا مزعجة عن وضعية مؤخرة قواته، تحديداً من أزرع حيث سكك الحديدية والطريق المحاذي لها، كما وصلته تقارير من بعد خمسة وثلاثون ميلاً تفيد بأنه بعد ظهر الرابع عشر من حزيران، استعاد طابور من مؤلف من سريتين من الجنود التونسيين معززين بعشر سيارات مدرعة وبعض المدفعية، المدينة وطرد سربين من قوة حدود شرق الأردن كانتا قد اتخذتا لهما مواقع قتالية بقصد تأمين طريق أزرع - شيخ مسكين.
ومن القنيطرة تناهت أيضاً أنباء تفيد بأن حشود ضخمة من قوات العدو تندفع بسرعة من ناحية الشمال الشرقي للمدينة، وحوالي الساعة الثانية والنصف صباحا من الخامس عشر من حزيران، تحركت قوة أخرى، معززة بعشر سيارات مدرعة، من سعسع ودحرت السرية 1رويال فوزيليير المؤلفة من بعض ناقلات الجند وسيارتين مدرعتين كان قد تم إرسالهما للتموضع على بعد أربعة أميال من جنوب سعسع.
وخلال النهار، بدا أن العدو مصر على دفع المزيد من القوات نحو الجنوب ومدينة القنيطرة، وكانت هذه القوات معززة بكتائب من المشاة والدبابات وسلاح الخيالة.
كانت القوات الهندية والقوات الفرنسية الحرة قد أغلقتا طريق القنيطرة-دمشق، كما التفتا حول مواقع القوات الفيشيية المرابطة في القنيطرة، وتقدمتا نحو طريق دمشق عبر الكسوة، لكن يبدو الآن أن هذه القوات وحاميتها في المرابطة في جبل الدروز، والتي تم تجاوزها سابقاً، قد اندفعت لقطع تلك الطرقات خلف الغزاة.
أرسل لويد على الفور تعزيزات لقواته مؤلفة من سريتين من القوات الفرنسية الحرة وبعض المدافع البريطانية بعد ان وضع تلك التعزيزات تحت أمرة العقيد جينين، وطلب من جنين التحرك نحو طريق شيخ مسكين والاحتفاظ به بعدما استخلص أن القنيطرة ستتعرض لهجوم وشيك من الفرنسيين الذي أعلنوا نيتهم مهاجمة المدينة، وهذا ما سعى اليه الفرنسيين بالفعل في الخامس عشر من حزيران حين دفعوا بكتيبتين من المشاة وقوة من الدبابات للسيطرة على المدينة.
***
ترقبوا: الفصل الثامن – الهجوم الفرنسي المضاد
الجزء الأول – الانسحاب من مرجعيون ومعركة الجلاحية
الفصول السابقة:
الفصل الأول: خلفية الصراع على لبنان وسوريا
الفصل الثالث: اليوم الأول من الغزو
الفصل الرابع: محاولة عبور الليطاني
الفصل الخامس.. الإندفاع نحو صيدا
الفصل السادس.. الإندفاع نحو مرجعيون وجزين
الفصل الثامن.. الهجوم الفرنسي المضاد، الانسحاب من مرجعيون ومعركة الجلاحية
تعليقات: